والجواب قلنا الواجب أن نزيل عن الكلام ما يوقعه الوهم حتى يتجرد المعقول الصرف عن العقل فقول القائل وجد عن عدم أو بعد العدم أو سبقه العدم إن كان يعني به أن العدم شيء يتحقق له سبق وتقدم وتأخر واستمرار وانقطاع أو شيء يوجد عنه شيء فذلك كله من إيهام الخيال حيث لم يمكنه تصور الأولية في الشيء الحادث إلا مستندا إلى شيء موهوم كالزمان والمدة كما لم يمكنه تصور النهاية في العالم إلا مستندا إلى شيء موهوم كالخلا والفضا وكما لم يمكن فرض خلاء بين وجود الباري تعالى وبين العالم لا يمكن أيضا فرض زمان وتقدير زمان بين وجود الباري تعالى وبين العالم فإن ذلك من عمل الوهم فقط ولا يلزم منه المعية بالزمان كما لا يلزم المعية من المكان فافهم ذلك فيجب أن تزيل هذا الإيهام عن فكرك فيتصور أن وجود شيء لا من شيء هو المعني بحدوث الشيء عن العدم فإن قولنا له أول المعنى بحدوثه وإن قولنا لم يكن فكان هو المعنى بسبق العدم إذ لا بد من عبارة وتوسع في الكلام ليطلق لفظ السبق والتأخر والاستمرار والانقطاع وإذا ثبتت هذه القاعدة فنقول إذا كان العالم ممكن الوجود باعتبار ذاته والممكن معناه أنه جايز الوجود وجايز العدم فيستوي طرفاه أعني الوجود والعدم باعتبار ذاته فإذا وجد فإنما يوجد باعتبار موجده ولولا موجده لما استحق إلا العدم فهو إذا مستحق الوجود والعدم بالاعتبارين المذكورين فكان واجب الوجود سابقا عليه بالذات والوجود إذ لولاه لما وجد ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود بالذات والوجود جميعا لأن قبل ومع بالذات والوجود لا يجتمعان في شيء واحد فهو إذا متأخر الوجود ولا يجوز أن يكون مع واجب الوجود بالزمان لأنه يوجب أن يكون واجب الوجود زمانيا لأن قولنا مع من جملة المتضايفات كالأخوة والأبوة فأحد الشيئين إذا كان مع الثاني بالزمان كان الثاني معه أيضا بالزمان وبكل اعتبار أثبت المعية في أحد الشيئين وجب عليك أن تثبتها في الشيء الثاني ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود بالرتبة والفضيلة لأن رتبة الواجب بذاته لا يكون كرتبة الواجب بغيره وظهر أن جايز الوجود وواجب الوجود لا يكونان معا بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات وصح القول كان الله ولم يكن معه شيء فما معنى قولكم الجايز دايم الموجود بالواجب أو مع الواجب أو قدرتم دوام وجود الباري تعالى زمانيا ممتدا مع الأزمنة الغير المتناهية كما توهمتم وجود العالم زمانيا ممتدا في أزمنة لا تتناهى وبئس الوهم وهمكم في الدوامين فكأنكم أخذتم لفظ الدوام بالاشتراك المحض أما دوام وجود الباري تعالى فمعناه انه واجب لذاته وبذاته ولا يتطرق إليه جواز ولا عدم بوجه من الوجوه فهو الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر كان بعده وأوله آخره وآخره أوله أي ليس وجوده زمانيا وأما العالم فله أول ودوامه دوام زماني يتطرق إليه الجواز والعدم والقلة والكثرة والاستمرار والانقطاع فلو كان دايم الوجود بدوام الباري كان الباري دايم الوجود بدوام العالم فلو كان الدوامان بمعنى واحد فيلزم أن يكون وجود الباري تعالى زمانيا أو وجود العالم ذاتيا وكلا الوجهين باطل فبطل قولكم إن العالم دايم الوجود بالواجب وإنما يتضح هذا البطلان كل الوضوح إذا أثبتنا استحالة حوادث لا أول لها ووجود موجودات لا تتناهى وأما قولكم إن العالم في المحل المتفق عليه إنما يستند إلى الموجد من حيث وجوده فقط والعدم لا تأثير له في صحة الإيجاد قلنا ولو استند إلى الموجد من حيث وجوده فقط لاستند كل موجود وتسلسل القول إلى ما لا يتناهى ولم يستند إلى واجب وجوده بل إنما استند إليه من حيث جوازه فقط والجواز قضية أخرى وراء الوجود والعدم ثم جواز الوجود سابق على الوجود بالذات فنقول إنما وجد به لأنه كان جايز الوجود ولا نقول إنما كان جايز الوجود لأنه وجد فجواز وجوده ذاتي له والوجود عرضي والذاتي سابق على العرضي سبقا ذاتيا ثم بينا أن الجايز مستحق العدم باعتبار ذاته لولا موجده فكان مسبوقا بوجوده ومسبوقا بعدم ذاته لولا موجده لأن استحقاق وجوده عرضي مأخوذ من الغير واستحقاق عدمه ذاتي مأخوذ من ذاته فهو إذا مسبوق بوجود واجب ومسبوق بعدم جايز فتحقق له أول والجمع بين ما له أول وبين ما لا أول له محال.
Bogga 7