ولكم كان الأمر يبدو هينا، لو أن هؤلاء الناقدين - ومن بينهم نيتشه - قد أوضحوا لنا الوسيلة التي عرفوا بها أن العالم في حقيقته عالم تغير دائم وصيرورة لا تنقطع. قد يرد مدافع عنهم بقوله إن تلك هي الصورة التي يرسمها لنا العلم، وعندئذ نجيب نحن قائلين إن العلم يضفي على العالم من القوانين ومن الصيغ الرياضية أو الذهنية ما يفوق كثيرا تلك المقولات التي يقال إن الذهن هو الذي يضفيها عليه، وأنه يبعث في العالم، عن طريق تلك القوانين والصيغ، نظاما أدق من ذلك الذي تبعثه فيه اللغة وألفاظها؛ فالصورة التي يرسمها العلم إذن هي بدورها - لو تمشينا مع منطقهم - صورة يخلقها الذهن الإنساني. وليست هي صورته الحقيقية. وفضلا عن ذلك، فلو اختلفت صورة العالم كما يرسمها العلم عن صورته التي ترسمها الأدوات المعتادة للمعرفة الإنسانية في حالتها اليومية. فليس معنى ذلك أن تنقد الأخيرة على حساب الأولى؛ لأن هذين مجالان مختلفان لا يتعدى أحدهما على الآخر، ولا سبيل إلى المقارنة بينهما. فقطرة الماء التي تبدو لي بحواسي المعتادة قطرة صافية، تبدو لي تحت المجهر مليئة بالكائنات الحية الدقيقة، ولكن هل يعني هذا أن الصورة الثانية هي الصحيحة والأولى باطلة؟ الواقع أننا هنا في مجالات مختلفة فحسب، وكل صورة تصح في سياقها الخاص، الذي هو في الحالة الأولى عالمنا بأحجامه المعتادة، وفي الحالة الثانية العالم الأصغر بأحجامه الدقيقة.
وإذن، فليس للعلم هو المصدر الذي أتوا منه بنقدهم هذا للمعرفة الإنسانية، فلم يبق إذن سوى التفكير العقلي في طبيعة هذا العالم ومدى كشف معرفتنا له. وهنا نرد عليهم قائلين إن مثل هذا النقد ينطوي - من الناحية العقلية الخالصة - على بطلان واضح؛ إذ هو يفترض أن الذهن الإنساني قد تجاوز مجاله الخاص؛ أعني أنه أصبح ذهنا غير إنساني، يحكم على طريقة الإنسان في المعرفة «من الخارج»، ويوضح عيوبها ونقائصها كما لو كان يفكر على نحو مخالف لها، وفي هذا تناقض صارخ. فمثل هذا النقد المثالي - وأقول إنه مثالي لأنه يحاول أن يثبت أن صورة العالم لدينا هي من عمل الذهن الإنساني ووسائله في المعرفة. وليست هي صورته الحقيقية - مثل هذا النقد يفترض تجربة تعلو على الحدود الإنسانية، يمكن بها مقارنة الصورتين، الحقيقية، والظاهرية أو الإنسانية، وإدراك مدى الاختلاف بينهما. وتلك هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتم هذا النقد عن طريقها. ولما كانت تلك الوسيلة خارجة عن قدرة الإنسان ومتجاوزة لنطاق تجربته، فالنتيجة الضرورية لذلك هي أن الموقف المثالي بأسره، ويدخل ضمن هذا الموقف نقد نيتشه وبرجسون للعقل، باطل من أساسه.
ولهذا النقد وجه آخر لا ينبغي أن نتركه دون الإشارة إليه؛ ذلك لأن نيتشه يتحدث عن أصل المعرفة، وأصل الحقيقة، فيراهما في النفع الحيوي، ويردهما إلى عوامل خارجة تماما عن نطاق السعي الخالص إلى المعرفة والحقيقة. وفي وسعنا أن نوجه إلى هذا الرأي نفس النقد الذي وجهناه إلى الرأي السابق؛ فمن أين، وعن طريق أية تجربة، عرف أن «أصل» المعرفة هو النفع الحيوي؟ إن هذا الأصل، باعترافه هو ذاته، تاريخي؛ أعني أن المعرفة البشرية كانت في الأزمان السحيقة، بل في عهود التطور الأولى، على النحو الذي يقول به، ثم صارت إلى ما هي عليه الآن. ومثل هذا الرأي لن يجد ما يدعمه إلا إذا استند إلى أساس علمي متين، وهو ما لم يحاول نيتشه أن يقوم به، ولم يكن الاتجاه الذي سار فيه تفكيره يمكنه من القيام به، فعلى أي أساس إذن يقدم نيتشه مثل هذا الفرض؟ إن فكرته تنطوي بلا شك على نفس الخطأ المنهجي؛ فهي تفترض القدرة على تجاوز التجربة الإنسانية في صورتها الحالية، لتعود إلى أصولها الأولى. فإذا كانت الصورة الحالية للمعرفة قد تغلغلت فينا منذ عهود بعيدة، كما يعترف هو ذاته، فلا سبيل لأية تجربة آدمية إلى الخروج عنها، أو الاهتداء إلى أصلها؛ ذلك لأن نيتشه، بوصفه كائنا تسري عليه نفس الحدود التي يتحدد بها سائر البشر، لا بد أن يكون هو الآخر غارقا في تلك الصورة الحالية للمعرفة البشرية، عاجزا عن تجاوزها وعن كشف أصلها، ما دامت تفرض نفسها على الجميع، بحيث تبدو لهم صورة أصلية راسخة في نفوسهم.
وفضلا عن ذلك، فإن من الأخطاء الفلسفية الكبرى أن ينظر إلى الأصل الأول للظاهرة على أنه يؤثر في شكلها الحالي، وخاصة إذا كان هذا الأصل بعيدا سحيقا. ولنفرض مع نيتشه أن أصل المعرفة يرجع إلى عوامل لا عقلية خالصة كالنفع الحيوي، وأن أصل الحقيقة - تبعا لذلك - هو الخطأ، فهل يؤثر ذلك على المعرفة والحقيقة الحالية في شيء؟ إن نيتشه ذاته يعترف بأن هذا الأصل قد «نسي»، ولم يعد العقل البشري يستحضره عن وعي في مرحلته الحالية، وإذن فلا قيمة على الإطلاق لمثل هذا الكشف! ومن الجائز جدا أن يكون لكثير من الظواهر التي تبدو لنا رفيعة، أصل يبدو وضيعا، ومع ذلك فلا ينبغي أن يستغل هذا في الحط من قدر الظاهرة في صورتها الحالية، ما دامت الصورة الأصلية قد اندثرت ونسيت تماما؛ وإنما الواجب أن تقدر هذه الصورة الحالية تبعا لقيمتها الذاتية، وأن يحكم عليها في ضوء ما لها من صفات في شكلها النهائي. وليس معنى ذلك أن البحث في تاريخ الظاهرة أمر لا جدوى منه؛ فنحن لا ننكر على الإطلاق أن من أول أصول المنهج العلمي رد الظواهر إلى أصلها التاريخي ومعرفة طبيعتها الحاضرة من خلال ماضيها؛ غير أن هذا المنهج إذا كان من الممكن استخدامه بنجاح في كشف «طبيعة» الظاهرة. فليس من الروح العلمية في شيء أن يستخدم في تقدير «قيمتها»، ومن الواضح أن نيتشه يستخدم مثل هذا المنهج خلال بحثه عن «قيمة» المعرفة والحقيقة، لا عن طبيعتها فحسب، ويبدو لي أن نيتشه ذاته كان في بعض الأحيان منتبها إلى هذا النقد الذي نوجهه إليه، وإن كان في أحيان أخرى يغفله، فهو يعرض في واحد من كتبه للرأي القائل بأن للفلسفة اليونانية أصولا شرقية، ويرى أن النزاع الذي أثير حول هذا الموضوع نزاع عقيم، فيقول: «الحق أن التساؤل عن أصل الفلسفات وكيفية نشأتها هو أمر لا قيمة له على الإطلاق. وليست هناك إجابة عنه تفضل الأخرى مطلقا؛ إذ إن بداية كل شيء كانت اختلالا يفتقر إلى النظام والتحدد، وكانت فراغا واضطرابا، ولا ينبغي أن نهتم في الأشياء إلا بمراحلها المتقدمة وحدها ... فالطريق المؤدي إلى كشف أصول الأشياء يؤدي دائما إلى البدائية والهمجية.»
14
ولو طبقنا هذه الفكرة ذاتها على المسألة التي نحن بصددها، لقلنا إنه من العقيم أن نحاول رد ظاهرة المعرفة إلى أصول ينظر إليها على أنها وضيعة؛ إذ إن المعول كله على مرحلتها الحالية، والأصل البدائي المضطرب حظ مشترك بين عديد من الظواهر، ولكنه لا ينبغي أن يستغل في الحط من قدرها على الإطلاق.
الفصل الرابع
الأخلاق
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن الأثر الأكبر الذي خلفه نيتشه كان في ميدان الأخلاق؛ فنيتشه مفكر أخلاقي قبل أن يكون فيلسوفا ذا آراء في المعرفة أو في طبيعة العالم، وقبل أن يكون ناقدا اجتماعيا أو فنيا أو باحثا فيلولوجيا. وفي ميدان الأخلاق أتى نيتشه بأكثر آرائه جرأة وأصالة، وفيه أيضا تعرض لأقوى الانتقادات والحملات. ولم تكن القوة الدافعة له طوال مراحل تفكيره، وطوال مراحل صراعه مع عصره ونقده له، إلا قوة أخلاقية.
على أن موقف نيتشه من الأخلاق يتخذ منذ بداية الأمر طابعا محيرا؛ فهو من جهة يجعل للأخلاق أهمية كبرى، ويرد إليها ظواهر عديدة لا تنتمي إلى مجالها، وهو من جهة أخرى يوجه أعنف نقد له إلى الأخلاق. أما عن الأمر الأول، فمن الواضح عنده أن كثيرا من الدوافع الإنسانية التي ينظر إليها على أنها نظرية خالصة، ترجع بالفعل إلى أصول أخلاقية. ومن هذا القبيل، دافع المعرفة، فنحن نريد أن نعرف لكي نكتسب مزيدا من القدرة على السلوك في الحياة، ولكي تقوى سيطرتنا على الأشياء، تلك كلها أمور تدخل في باب الفعل العملي لا الفكر النظري؛ فأصل السعي إلى المعرفة إذن أخلاقي، وتفكيرنا ليس إلا وسيلة نتمكن بها من زيادة قدرتنا على «السلوك» في العالم، والسعي إلى بلوغ الحقيقة ليس له من معنى إلا «عدم الرغبة في الخداع، ولا في خداع ذاتي»، وهذا ينتمي إلى مجال الأخلاق. وعلى ذلك، فمجال الأخلاق أوسع المجالات وأشملها، وهو ينطوي في داخله على مجالات أخرى تبدو بعيدة عنه، وتدعي أنها فقدت صلتها به، وأنها نظرية خالصة لا شأن لها بطريقة السلوك العملي، وفي هذا أبلغ دليل على مدى اهتمام نيتشه بالأخلاق، ونظرته إليها على أنها أشمل مظاهر الفاعلية الإنسانية وأعمها. ولكننا في نفس الوقت الذي نلحظ فيه هذا الاهتمام، نلمس في كل كتاباته حملة على الأخلاق، ربما كانت أعنف حملة تعرضت لها طوال تاريخ التفكير الإنساني الواعي فيها. ولا شك في أن التناقض الظاهري لا يمكن أن يحل إلا إذا درسنا المقصود بكلمة الأخلاق في حملاته النقدية، حتى يمكننا أن نحدد أي المعاني يقصدها نيتشه حين ينقد الأخلاق من جهة، وحين يجعلها ظاهرة رئيسية في كل أوجه النشاط الإنساني من جهة أخرى.
Bog aan la aqoon