الوجودية
يحرص كثير من الفلاسفة الوجوديين على أن ينسبوا تفكير نيتشه إلى مذهبهم، ويعدوه واحدا منهم. ولا شك في أن المرونة الكبيرة التي كانت يتصف بها أسلوب نيتشه، تعين هؤلاء في دعواهم إلى حد بعيد؛ إذ تقبل كتابات نيتشه تفسيرات عدة، وتستطيع كثير من المذاهب - كما رأينا من قبل - أن تجتذبه إلى فلكها الخاص. وربما كانت الوجودية أكثر من غيرها نجاحا في هذا الصدد. ومن هنا، فسوف نتحدث عن العلاقة بين تفكير نيتشه وبين الوجودية بمزيد من الإسهاب لنتبين في آخر الأمر إلى أي مدى يمكن أن يعد نيتشه فيلسوفا وجوديا.
لا شك في أن الارتباط بين حياة نيتشه وبين تفكيره، على النحو الذي عرضناه في الفصل الأول، يقرب بينه وبين كثير من الوجوديين. وإذا كنا قد لاحظنا أن هذا الارتباط إنما يتم عن طريق إثراء الفكر وبعث الحياة فيه، لا عن طريق امتلاء الحياة واستخلاص الفكر منها، فإننا سوف نجد له في ذلك بين الوجوديين نظيرا؛ وأعني به كيركجورد
Kierkegoard ، الذي كانت تجاربه الحية هو الآخر هزيلة شحيحة، وكان ما في هذه التجارب من عنف راجعا إلى أنها هي وحدها - على قلتها - مدار حياته، وإلى أنه قد وجه إليها وركز عليها من باطن ذاته شحنات عاطفية وانفعالية جعلتها تبدو مليئة بحق.
وفي فهم نيتشه للإنسان ما يقربه من الوجودية كثيرا؛ فمن أهم صفات التفكير الوجودي، تأكيده تجدد الوجود الإنساني ؛ فليس للإنسان ماهية ثابتة، بل إن وجوده سابق على ماهيته، أو هو الذي يكون ماهيته؛ فمن خلال وجود الإنسان تتحقق ماهيته. وليست له أية ماهية ثابتة تتحدد مقدما. ويكاد نيتشه يعبر عن هذه الفكرة ذاتها حين يصرح بأن الإنسان في محاولة دائمة لا تعرف الاستقرار؛ فهو لا يرضى بشيء، ولا يقف عند حد. والإنسان، على حد تعبيره، هو الحيوان الذي لم يثبت بعد، وهو الحيوان الذي لم يصنف أو يحدد نوعه؛ «ففي الإنسان شيء أساسي ناقص.» وبرغم ذلك، فإن هذا النقص هو ما يعلي من قدر الإنسان؛ فعدم تحدد ماهيته هو الذي مكنه من أن يجدد وجوده على الدوام. ومن هنا عرف الإنسان في كتاب زرادشت بأنه «خالق ذاته
Selbstschaffender »؛ أي إن هذا النقص الأساسي هو مصدر حريته، وهو الذي يمكنه من تجديد ذاته وخلقها على الدوام. وفي وسعنا أن نفسر فكرة أساسية من أفكار نيتشه؛ أعني فكرة إرادة القوة، على نحو يجعل منها مظهرا من مظاهر هذا المبدأ العام الذي تميزت الوجودية بالتنبيه إليه؛ أعني أن الإنسان كائن يتجاوز ماهيته على الدوام، ولا يقف بها عند حد.
وللإنسان في كل فلسفة وجودية موقف أساسي، يعبر عما تتميز به أهم اللحظات التي تتبدى فيها إنسانيته. في هذا الموقف يتخلى الإنسان عن كل ثبات، ويقف في مفترق الطرق، بين الثبات الذي تركه وتجاوزه، وبين الطرق المتشعبة التي ترتسم لحريته. هذا الموقف الأساسي هو عند كيركجورد، القلق، الذي يراه خير تعبير عن عدم تحدد ماهية الإنسان؛ لأنه الحالة التي تتفتح فيها أمانة آفاق عديدة قبل أن يستقر على واحد منها. وقد حاول بعض الوجوديين أن يجدوا عند نيتشه موقفا مشابها، فأشاروا إلى فكرة «الخطر» عنده، والخطر هو «السير في الطريق»؛ فالإنسان الحقيقي هو الذي يسير في الطريق؛ أي هو الذي يحاول دائما أن يترك حالته السابقة ليتوجه إلى حالة تعلو عليها؛ أما الذي يقف حيث هو، ولا يسير في الطريق، ولا يمارس الشعور بالخطر، فلم تتحقق إنسانيته بعد، وهو الذي يسميه نيتشه «بالإنسان الأخير»، وهنا يكون أوان الكلام عن فكرة أخرى من أفكار نيتشه، يمكن أن تخضع بدورها لهذا التفسير الوجودي؛ أعني فكرة «الإنسان الأرقى» التي يمكن أن تفسر على أنها تعبير عن تلك الدعوة إلى تجاوز الماهية الثابتة، وحشد القوى الخالقة للإنسان حتى يعلو بها على ذاته دواما.
ومن قبيل ذلك التقريب أيضا، تفسير خاص لفكرة العود الأبدي،
6
على نحو يجعل منها تعبيرا عن رغبة النفس في السيطرة على الزمان؛ فحين يعود كل ما مضى عددا لا متناهيا من المرات، يستوي عند النفس الماضي والمستقبل، ويصبح كل ماض قمت به، مستقبلا سأقوم به فيما بعد. وهكذا تتحرر النفس من قيد الماضي بإحالته إلى مستقبل، وتسيطر الإرادة الخالقة على الزمان في كل مظاهره، لا في مستقبله فحسب. وفي هذا الفهم لفكرة العود الأبدي يبدو نيتشه وجوديا أكثر من الوجوديين، الذين اقتصروا على تأكيد سيطرة النفس على المستقبل وتحكمها فيه.
Bog aan la aqoon