بل لقد كان نيتشه يحاول أن يدخل أمراضه، حتى أكثرها ارتباطا بالناحية العضوية، في عداد الظواهر الواعية، ويدرجها ضمن عناصر حياته الشعورية، فلا يرى المرض «سببا» لاتجاهات معينة يتبعها في كتاباته، بل «نتيجة» لهذه الاتجاهات.
2
ومع اعترافنا بمبالغته في هذا الحكم المطلق، فإننا نستطيع أن نجد له مع ذلك مبررا فيما قلناه من قبل، من أن حياة نيتشه كلها كانت تدور حول فكره، وأن مشاكله الفكرية هي عناصر هذه الحياة، وهي أشخاصها، وهي التي كان في وسعها أن تعلو أو تهبط بها؛ فمثل هذا الشخص الذي كانت مشاكله قادرة على أن تثير فيه مختلف الانفعالات التي تثيرها فينا المواقف الحية، لا يستبعد أن تؤدي به هذه المشاكل ذاتها - في بعض الأحيان - إلى المرض أو الصحة، وفي هذه الحالة يكون المرض نتيجة لفكره الواعي، لا سببا في توجيه ذلك الفكر في اتجاه معين. ولنضرب لذلك مثلا: ففي الفترة التي دعاه فيها فاجنر إلى حضور أعياد بايرويت
Bayreuth ،
3
والتي كان نيتشه فيها قد بدأ يفكر بفن فاجنر، كان يشعر دائما بغثيان وصداع أليم، وكثيرا ما كان يعتذر عن الحضور لمرضه. وليس من المستبعد أن تكون هذه الأعراض ذاتها - في مثل هذه القضية النفسية الحساسة الشفافة - «نتيجة» لتقزز عقلي بدأ يشعر به نحو أعمال فاجنر، لا سببا له؛ بل إن في وسع المرء أن يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيرى في جنونه الأخير تعبيرا آخر عن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن الحياة التي تتخذ كل عناصرها من مشاكل فكرية صرف، لا بد أن تعجز عن المضي في طريقها إذا وصلت هذه المشاكل إلى الحد الذي لا يمكنها أن تتجاوزه. والحق أن نيتشه في نهاية فترة تفكيره الواعي كان قد وصل في تفكيره إلى حد لا يستطيع أن يمضي بعده خطوة واحدة؛ فهو قد حلل نفسه وحياته تحليلا عميقا، ولخصها كلها في كتبه الأخيرة. وهو قد وصل في تفكيره إلى النقطة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيدا بالنسبة إليه؛ فهو يقف الآن ضد المسيح، وهو يمثل الدعوة الإيجابية إلى الحياة في مقابل الدعوة السلبية إلى التخلي عن الحياة. وحين تصل المشاكل الفكرية - أعني عناصر حياته - إلى نقطة التوتر هذه، يكون الانفجار أمرا محتوما. وهكذا كان الجنون.
وعلى هذا النحو يبدو الجنون «نتيجة» منطقية لتطور لا بد منه.
ولسنا ندعي أن هذا التفسير هو وحده الصحيح، أو أنه يعلل كل الوقائع، ولكنه لا يبدو مستحيلا إذا فهمت حياة نيتشه على النحو الصحيح؛ حياة لا قوام فيها إلا للمشاكل الفكرية، ولا يستطيع أن يرتفع بها شيء أو يهبط بها شيء ما عدا الأفكار.
وفي ضوء هذه الفكرة ذاتها سوف ندرس بشيء من التفصيل ما نعتقد أنه الواقعة الأساسية في حياة نيتشه - وهي بطبيعة الحال واقعة فكرية بدورها - وأعني بها علاقته بفاجنر؛ ففي هذه العلاقة سوف نجد تأييدا آخر لما نذهب إليه من تركز حياة نيتشه حول مشاكله العقلية وحدها؛ إذ إن تقلبات هذه العلاقة، وما نجم عنها من سعادة أو شقاء أحس بهما نيتشه خلال حياته، إنما كانت تخضع لنظرة «عقلية» خاصة عند نيتشه، بحيث لا تبدو تلك الواقعة الرئيسية في حياته إلا على صورة مشكلة فكرية فحسب.
الفصل الثالث
Bog aan la aqoon