Nida Haqiqa
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Noocyada
162
وهو كذلك الكائن الذي فرضت عليه مهمة الحفاظ عليها؛ ولهذا يمكن القول بأنه هو حارسها وراعيها، وتتأكد إنسانية الإنسان عندما يقوم بهذه المهمة ويحفظها بكيانه وفكره، وتنسى وتضيع عندما يتنكر لها ويعجز عن القيام بها، ولهذا نجد هيدجر يقول في بداية رسالته: إن الفكر يحقق علاقة الوجود بماهية الإنسان، وليس ما «يحققه الفكر» إلا تجربة الإنارة والصمود والتعبير عنها باللغة، عندئذ تصبح اللغة هي «بيت الوجود»، أي المكان الذي تتجلى فيه الإنارة تجليا أصيلا، بينما تظل في العادة خافية أو متحجبة لأننا لا ننتبه في حياتنا اليومية إلا إلى الموجودات التي تظهر في نورها، ولا شك أن إدراك هذه الإنارة أمر عسير؛ لأنها ليست موضوعا يمكن التعبير عنه باللغة التي درجة على وصف الموضوعات المألوفة، كما أنها ليست موجودا كسائر الموجودات التي تظهر لنا ويسهل علينا إدراكها، وإنما هي ذلك الذي يجعل تجربة الموجود أمرا ممكنا.
مهمة الفكر إذن تنحصر في التعبير عن الإنارة بالكلمة، والحفاظ عليها، وتيسير السبل إلى إدراك ماهيتها، ولعل هذه الفكرة هي التي حركت هيدجر ودفعته منذ البداية للسؤال عن الوجود والحقيقة.
ما هي العلاقة بين الإنارة والوجود؟
إن الإنارة هي الوجود، بقدر ما يتيسر لنا إدراكه وفهمه فهما غير مباشر ولا موضوعي، وهذا هو الذي تعبر عنه هذه الرسالة حين تقول: «إن الفكر يسمح للوجود بأن يستولي عليه كيما يعبر بالقول عن حقيقة الوجود، والفكر هو الذي يحقق هذا السماح.» فحقيقة الوجود هي هذه الإنارة التي «تحدث» وتحمل علاقتنا بالموجود وتبقى عليها، وبهذا تشهد الحقيقة نفسها تحولا حاسما في مفهومها ووظيفتها، فلم تعد تحديدا يتعلق بالموجود «وينطبق» عليه، وإنما أصبحت هي «اللاتحجب» أو الإنارة التي لا نفكر في الوجود إلا على ضوئها بل نجعلها مرادفة له، ربما يتحمل هيدجر مسئولية الارتباك الذي نقع فيه عند الاطلاع على هذه المصطلحات المختلفة من وجود وإنارة وحقيقة ولاتحجب (أليثيا) في مؤلفاته العديدة، ولكن لعل للرجل عذره؛ فهي قد صحبت طريقه الطويل في التفلسف، كما أنه كان دائما «على الطريق» إليها، ومع ذلك نستطيع أن نقول الآن، بعد اكتمال دائرته الفكرية، إنها جميعا تعبر عن شيء واحد وتجربة واحدة، والأهم من المصطلحات بطبيعة الحال هو تحقيق هذه التجربة وبذل الجهد المتصل في سبيلها.
ونسأل الآن: ما هي العلاقة بين الوجود وبين ماهية الإنسان الذي وصفنا وجوده بأنه «تواجد»؟ إن الوجود نفسه هو «العلاقة»، و«الموضع» الذي تكون فيه حقيقة الوجود «وترتب نفسها» فيه هو الموجود الإنساني أو على حد تعبير هيدجر: «إن التعرض لإنارة الوجود هو الذي أسميه بتواجد الإنسان، والإنسان وحده هو الذي يختص بهذا الأسلوب في الوجود، والتواجد المفهوم بهذا المعنى ليس هو الأصل في إمكان العقل فحسب، وإنما التواجد هو ذاك الذي تحفظ فيه ماهية الإنسان منشأ تحديده.»
كلام عسير بغير شك، ولكنه يبين التحول الذي طرأ على وجهة نظر الفيلسوف بعد «الوجود والزمان» فأصبحت أوسع وأشمل، لم يعد «التواجد» مجرد جهد يبذله الإنسان لكي يصل إلى هويته أو وجوده الأصيل عن طريق «شروعه» على إمكانياته، بل أصبح هو التعرض لإنارة الوجود والانفتاح عليها، هذه الإنارة لم يحدثها الإنسان ولم يخلقها بإرادته وفعله، وإن كانت وراء كل خلق أو فعل، وتدور رسالة النزعة الإنسانية حول وجود الإنسان أو بالأحرى تواجده، أي حول فهم الإنسان بوصفه كائنا متميزا عن سائر الكائنات الحية بعلاقته بالوجود.
بهذا تنفتح لنا أبواب المجال الذي يمكن فيه تحديد ماهية الإنسان، وبهذا يكتسب من القيمة والكرامة أضعاف ما أعطته إياه النزعة الإنسانية، إن إنسانيته الآن مستمدة من قربه من الوجود، وفكره منصب على الانفتاح الحادث في التاريخ، أي على حقيقة الوجود: «إن الفكر ليفعل في أثناء تفكيره، وربما كان هذا الفعل هو أبسط الأمور وأسماها في نفس الوقت؛ لأنه يتعلق بعلاقة الوجود بالإنسان.»
ومن الطبيعي بعد كل ما قلناه أن تكون اللغة مرتبطة بالوجود، فاللغة تعبر عن تجربة الوجود، والفكر والشعر - كما سنرى بعد - لا يهتمان بشيء قدر اهتمامهما بذلك الانفتاح الأساسي على الحقيقة، وإذا كنا في العصر الحاضر أسرى الفهم التقني أو المنطقي للفكر، فإن هذا يزيد من مشقة الجهد الذي علينا أن نبذله للاقتراب من الأفق الذي يحاول هيدجر أن يهدينا إليه، صحيح أن المنطق يعلمنا فن التفكير السليم، ولكنه لن يعلمنا كيف نفكر ولا ما هو الفكر، وأقصى ما يمكن أن نعرفه من المنطق هو التفسير التقني أو «الأداتي» الذي يتحكم اليوم في حياتنا العملية ولا يعدو أن يكون تفسيرا ميتافيزيقيا محدودا للفكر الذي انحدر إلينا من السفسطائيين وأفلاطون ولم تتوقف أيدي الصناع المهرة عن تهذيبه وتنقيحه! وعندما يسير الفكر صوب نهايته، بابتعاده عن عنصره، نجده يعوض هذا النقص بأن يجعل من نفسه تقنية وأداة للتعليم، ومن ثم يؤكد نفسه في برامج التدريس ونظم الحضارة، وتصبح الفلسفة بكل بساطة أسلوبا فنيا للشرح والتفسير انطلاقا من أسمى العلل والأسباب.
163
Bog aan la aqoon