Nida Haqiqa
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Noocyada
ليس المقصود بطبيعة الحال أن ترتد كل الفنون إلى الشعر الذي نعرفه ونميزه عن النثر ونختلف حول طبيعته وخصائصه ومفهومه، وإن لم نختلف حول محبته وحول وقعه الغنائي على الوجدان، وإنما المراد بالشعر أن يكون الإبداع في مختلف الفنون هو السبيل إلى تحرير الحقيقة وتجليتها والكشف عنها، ولا شك أن لكل فن سبله المختلفة عن غيره في تحقيق هذا الكشف والانفتاح، ولا شك أيضا أن لكل عصر فنه أو فنونه، أي أسلوبه في «تأسيس» الحقيقة وتصويرها والتعبير عنها.
كان هيدجر يريد أن يعرفنا بماهية العمل الفني، فإذا به يزيدنا علما بماهية الحقيقة! كنا ننتظر منه أن يكشف لنا عن ماهية الفن، فإذا به يعود بنا إلى ماهية الحقيقة كما تظهر في العمل الفني، أيكون بهذا المقال قد خطا أول خطوة على طريق «العودة» أو «الرجعة» إلى الحقيقة الأصلية التي ينطلق منها لتفسير اللغة والفكر والإنسان ... إلخ على نحو ما فسر الفن؟ أيكون بهذا قد غير طريقه الأول الذي جعله يبحث في وجود الإنسان تمهيدا للبحث عن معنى الوجود بوجه عام؟
هذا هو الذي حدث بالفعل.
لقد بدأ طريق العودة أو الرجعة إلى حقيقة الوجود، فلنحاول الآن أن نصحبه على هذا الطريق، بقدر ما يسعنا الجهد وتسعفنا الأنفاس! (4-3) حقيقة الإنسان
كتب هيدجر رسالته المشهورة عن النزعة الإنسانية (1946م) ردا على خطاب وجهه إليه المفكر الفرنسي جان بوفريه الذي زاره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوطدت وشائج الصداقة بينهما منذ ذلك الحين، والرسالة تدول حول هذا السؤال: ما هي إنسانية الإنسان وكيف نفكر فيها؟ هل تقتصر النزعة الإنسانية - كما نفهمها عادة - على السؤال عن الإنسان والاهتمام به؟
كان كتيب سارتر عن «الوجودية نزعة إنسانية» قد صدر في ذلك الحين في باريس، وكان سارتر - قبل محاولاته الأخيرة للاقتراب من الماركسية - ما يزال على خلافه مع الماركسيين الذين أرادوا احتكار النزعة الإنسانية، فجاء سارتر ليؤكد لهم أن الوجودية هي الإنسانية الحقة، واغتنم «بوفريه» الفرصة ليسأل فيلسوف الوجود الأكبر: ما هي النزعة الإنسانية؟ أيمكن أن نضفي على هذه الكلمة معنى جديدا؟ ويرد عليه هيدجر بسؤال مضاد: وهل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟
بهذا يضعنا في قلب المشكلة: كيف نفكر في ماهية الإنسان؟ ربما أوحى سؤال هيدجر المضاد بأنه لا يكترث بالبحث عن ماهية الإنسان، ولكن الواقع غير هذا، فهو يشك في كل محاولة لتحديد ماهية الإنسان بالاعتماد على المفهوم التقليدي للنزعة الإنسانية التي تضعه في مركز الوجود، صحيح أن مثل هذه المحاولة هي أقرب شيء منا وأيسره علينا، وهي كذلك نفس المحاولة التي قامت على أرض الميتافيزيقا وتحققت على مدى تاريخها، ولكنها ليست بأنسب الطرق المؤدية إلى فهم حقيقة الإنسان.
أين نجد النزعة الإنسانية، ومن من الشعوب والحضارات تمثلها لأول مرة؟ لا شك عند هيدجر أنها ظاهرة رومانية خالصة، نشأت عن التقاء الرومان بالثقافة الإغريقية في عهودها الأخيرة، وليست «النهضة» التي تمت في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلا بعثا للنزعة الرومانية، أي للنزعة الإنسانية القائمة على فكرة «البايدايا» أو التربية الإغريقية، والدليل على هذا أن النظرة إلى الروح الإغريقية المتأخرة كانت نظرة رومانية، وأن «الإنسان الروماني» الذي بعثه عصر النهضة كان يعد الطرف المقابل «للإنسان البربري» (بالمعنى الأصلي الذي كان يطلق على سائر الشعوب دون الإغريق وسلالتهم من الرومان)، كما كانت «البربرية» المنسوبة للشعوب القوطية في العصر المدرسي الوسيط مرادفة لكل نزعة غير إنسانية، وقد كان من الضروري أن يستند هذا المفهوم التاريخي للنزعة الإنسانية على دراسة الإنسان، وأن يرتبط بالرجوع إلى العصور القديمة وبعث علومها وفنونها ونصوصها، ومحاكاة الروح الإغريقية بوجه خاص محاكاة خلاقة، وهذا هو الذي حدث على سبيل المثال مع النزعة الإنسانية التي قامت في ألمانيا في القرن الثامن عشر ودعا إليها رجال من أمثال فنكلمان وجوته وشيلر وهمبولت وهيردر.
بيد أن هذه الصورة التاريخية للنزعة الإنسانية ليست هي الصورة الوحيدة؛ ففي عصرنا الحديث نزعة أخرى تهتم بالإنسان دون أن تمد جذورها في أرض الثقافة اليونانية والرومانية القديمة، وتتمثل بوجه خاص في الماركسية وفي وجودية سارتر، ولقد كان من الضروري أن يختلف مفهوم النزعة الإنسانية باختلاف المذاهب والعصور؛ لأنه إذا كان المقصود منها أن يتحرر الإنسان ليسترد إنسانيته ويجد فيها قيمته وكرامته، فلا بد أن يختلف معناها باختلاف المعنى الذي يفهمه كل منها من حرية الإنسان وطبيعته.
من الواضح أن هيدجر ينتقد هذا التصور التاريخي للنزعة الإنسانية والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فما هي الخاصية التي تميز الإنسان في هذا التصور؟ إنها العقل
Bog aan la aqoon