Fikirka Yurub ee Qarniga Sagaal iyo Tobnaad
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Noocyada
غير أن الفكر ليس يقتصر أثره في الوجود على زيادة معرفتنا بالأشياء الكائنة، وتطبيق المعرفة على الأغراض العملية؛ فإنه إن اقتصر على هذا وحده لتفرق بددا ومضى ناقصا غير تام، بل غالب ما أوحى إلينا بوجوه من التناقض تغشى عقولنا حينا بعد حين. دليلك على هذا أن الذين يهبون أنفسهم للمباحث العميقة المستفيضة، أو إلى العمليات، غالبا ما يأنسون من أنفسهم نزعة إلى التغلغل في أوجه من النظر في حقيقة الأشياء تتسع أمامهم دائرتها كلما أمعنوا في البحث، في حين أن حاجتهم من البحث لم تكن لتبلغ بهم إلى تلك الحدود القصية التي يسوقون بأنفسهم في غمراتها بلا حاجة إليها؛ فقد يظهر للباحث مثلا أن الأساليب التي يتخذها لبحثه سبيلا قد أصبحت معدومة الجدوى والنفع، إن أراد الوصول بها إلى غرض عملي يضعه نصب عينيه، فيساق إلى الشك في تلك المبادئ التي مضى عليها عاكفا نصف عمره، من غير أن يداخله الريب يوما واحدا في صحة ما تقوم عليه من الحقائق، وفيما ينتظر أن تنتج من الفوائد. وقد يصادف باحث آخر نجاحا باحتذائه أسلوبا خاصا في البحث، وبذلك تتجدد رغبته في تطبيق ذلك الأسلوب على موضوعات كانت تعالج من قبله على طريقة مخالفة لطريقته؛ وربما ينهض بذلك الأسلوب إلى درجة يصبح معها قاعدة عامة من قواعد الفكر.
وقد يتفق لباحث ثالث أن يأخذ به الشغف بتتبع المعرفة في فرعين أو ثلاثة من فروعها تلوح على ظاهرها غير مرتبطة برباط ما، غير أن هذه الفروع إذ تتقارب في ذهن الباحث لا يلبث أن يأنس من نفسه؛ لتقاربها في ذهنه وضعا، رغبة في أن يوحد بينها، ويؤلف بين ما تعارض من وجوهها. وقد يبلغ باحث رابع بعد زمان ما إلى حد من الملل مما عكف عليه من مباحث لم تؤد به إلا إلى نواح من العلم محدودة الفائدة، فيسعى إلى التخلص مما عكف عليه طوال عمره؛ ليفوز بناحية أخرى من البحث العلمي أوسع مدى، وأكثر فائدة، وأبعث على الأمل والرجاء.
على أننا إن سلمنا بأن الجهل أو التفريط قد يعوق السواد الأعظم من الناس، الذين لم ينفقوا قواهم حتى في سبيل التنازع للبقاء، عن أن يكونوا وجها من النظر تتعدى الدائرة الضيقة التي يلزمونها، وإذا سلمنا بأن الكثيرين منا إنما يعيشون كالأطفال قانعين، موقنين بأن حاجات النوع الإنساني العظمى تدبرها إرادة علوية لن تبلغ إليها عقولنا، ولن تدركها أفهامنا، فإن في بني الإنسان لعددا عظيما من أولئك الذين لا يهدأ لهم روع إلا إذا تطلعوا إلى شيء أكرم مما بين أيديهم طبيعة، وأوسع مدى، وأحسن صفة ؛ أولئك الذين يعيشون متعطشين للوصول إلى مستكن الحكمة الصحيحة، أو تسوقهم طبيعتهم الثائرة المتوثبة إلى البحث وراء القواعد والأغراض الغائية التي يشيد عليها هيكل الكون والحياة. •••
لقد أفلحت اللغة في نحت كلمة تعبر عن هذه المحاولات على تعدد مظاهرها، وعلى اختلاف أوجه تطبيقها، وضعت لها كلمة - «التأمل»
Speculation ، وهي كلمة تدل على ما تتطلب هذه الأشياء من جرأة وإقدام، وما تبعث عليه من التغرير بالنفس. وجدت تلك الأشياء في كل العصور، وفي كل الأمم، وفي كل اللغات، وعلى الجملة حيثما كان الأدب بارزا في صورة من العقل أو التخيل، مصبوبا في قالب من النثر أو الشعر أو الرموز، معبرا عنه في بعض الأحيان بمصطلحات محدودة، وفي البعض الآخر بمجازات غامضة مبهمة؛ فقد نتصور أن الفلسفة لم تنشأ إلا من طريق تلك الأوليات الغامضة، حيث شرعت العقول تسلكها في نسق يراعى فيه أسلوب ما، أو توحدها فتجعل منها كلا متماسك الأطراف، مؤتلف النواحي. وعلى هذا نستطيع أن نعرف الفلسفة بأنها «الانصراف إلى التأمل على أسلوب مبين محدود؛ للوصول إلى وحدة نظامية»، وقد نقول: بأن العلم والفلسفة هما «التفكير الأسلوبي»
Methodical Thought ، في حين أن كلمة «نظامي» لا تنصرف إلا إلى صور التفكير الفلسفي العميق الذي يرمي إلى بلوغ الوحدة والكمال. •••
لقد مضينا حتى الآن في تدبر الفكر على قاعدة أنه وسيلة تؤدي إلى غاية، أو بالأحرى نستطيع أن نقول: إننا مضينا نبحث الفكر في نزعته العلمية. والآن نريد أن نتدرج من ذلك إلى بحث الفكر إذ يتخذ الفكر موضوعا لتأمله؛ أي كقوة تنعكس على نفسها، وتنصرف إلى معرفة ماهيتها وأصلها ونشأتها ونواميسها، وقوة ثباتها، والفحص عن قواها، مع الانصراف في كل ذلك إلى الوصول إلى حد يتحقق عنده كمالها ووحدتها وبقاؤها، وكل ما في هذا الشطر العظيم من أشطر الفكر سوف نطويه تحت عنوان «الفلسفة»، فكما أننا سنخص القسم الأول من كتابنا: «تاريخ الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر» ببحث الفكرة العلمية، كذلك سنخص القسم الثاني منه ببحث الفكرة الفلسفية. •••
لقد نشأ العلم تدرجا من مجمل ما استجمع من ضروب المعارف المدخولة بالخطأ الممسوسة بالفوضى، وما زال الفكر يعالجها برغبته في الوصول إلى الكمال، ونزعته إلى ترتيب المعارف حسب الكفاءات العقلية، واستخلاص أوجه النفع منها، حتى وصل إلى ما نعرف منه في العصر الحاضر. كذلك شبت الفلسفة بطريقة مشابهة لهذه، غير أنها شبت من ناحية الفكرة التأملية، برغبة وضع تلك الفكرة على نظام يتبع فيه أسلوب ما؛ ابتغاء الوصول إلى غرض محدد أو غاية بعينها.
ومع كل هذا فلن يسع العلم ولا الفلسفة، ولا كلاهما إن اجتمعا وتمازجا، معنى «الفكر»، ولن يشمل معنى العلم ولا معنى الفلسفة ما يقصد من اصطلاح «الفكر»؛ فإن كلا من العلم والفلسفة ينطوي تحت ما يعنى من اصطلاح «الفكرة الأسلوبية» المنظومة على قواعد معينة، غير أنه لدينا ناحية الفكر المعدومة الروابط والنظم؛ ناحية الفكر المطلقة من الحدود والتعاريف، تلك التي تستتر وراء صور الأدب والشعر والخيال والفن. ولن يظهر لتلك الناحية من أثر في عصرنا إلا في الحياة الفنية أو الأدبية أو الدينية.
وهذه الصور إن كانت من الواقع شعاعا في الحياة الفنية أو الأدبية أو الدينية، وهذه الصور إن كانت من الواقع شعاعا منعكسا على الحياة من أشعة العلم أو نور الفلسفة، إلا أنها، ككل الأشعة المنعكسة، لا تتبع مصدر الضوء الذي ينبعث عنه وجودها فقط، بل تتقدمه في الظهور عادة. إنها ليست العتمة التي تعقب النهار، بل هي فجر المعرفة الذي يتقدم بزوغ الشمس. إنها الشفق الذي ترامت خيوطه المشعة في ظلمه الفكر. إنها الصدفة التي كمنت فيها جرثومة الفكر التي تمخض عنها جنين المستقبل، فيها نشأت بدايات الفن، وأوليات الفلسفة والعلم، التي لم يقف العقل على أسرارها، ولم يحلم بما سوف يكون من نتائجها. إنها لتحيط بأبعد أغوار العقل، حيث هنالك تجد مبعث الفكر وأصله كامنا في تضاعيف الفطرة، وحيث ترجع بين حين وآخر إلى تلك الأغوار السحيقة لتستمد الحياة كلما أعوزتها الحياة، وتستنزل الوحي كلما أعوزها الوحي، فيزجيها بكل طارف وتليد.
Bog aan la aqoon