هذه كلها متناقضات لا يمكن للعقل أن يتخلص منها؛ لأنه قد حاول أن يستخدم أداتي الزمان والمكان ومقولة السببية التي لم يزود بها إلا ليستخدمها في مجال خبراته الحسية، حاول أن يستخدمها في فهم المكان نفسه والزمان نفسه والسببية نفسها، كأن هذه الأشياء كائنات خارجة عنا ممتدة مع العالم حيث امتد، فعلى الرغم من أن كل ما نصادفه من تجارب لا يمكن فهمه إلا إذا تمت صياغته في عبارات دالة على مكان أو زمان كما تدل على العلاقة السببية بين أجزاء تلك التجارب، إلا أننا نخطئ ونقع في التناقض حين نتصور هذه الأشياء واقعا ونجعل منها موضوعا لمعرفة.
هكذا يجعل «كانت» للمعرفة الإنسانية الممكنة حدودا تقف عندها، وحدودها هي حدود الخبرة الحسية؛ إذ الخبرة الحسية هي المضمون الذي ينصب في مقولات العقل فتتكون بذلك معارفنا عن العالم الخارجي، وبغير هذه الخبرة الحسية تظل مقولات العقل فارغة جوفاء بغير موضوع، كما أنه لولا مقولات العقل التي فيها تجد الخبرة الحسية شكلا وصياغة لكانت عمياء بغير معنى.
وليست جماعة «النقديين» تقف وحدها في القول بضرورة أن يقف الإنسان بمعرفته عند الحدود التي لا يجوز له أن يتعداها، بل يؤيدها في ذلك فريق آخر هو فريق «الوضعيين»؛ فالمذهب الوضعي على يدي «أوجست كونت»
1
كذلك يرى وجوب الوقوف بمحاولاتنا نحو معرفة العالم الخارجي عند حدود الظواهر التي يمكن مشاهدتها وإقامة التجارب عليها واستخراج قوانينها العلمية القائمة على علاقة السببية، أما أن نجاوز الطبيعة المنظورة إلى ما وراء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة ولا غناء فيها، إن جاز للأسبقين في مرحلة الطفولة البشرية أن يحاولوها فلا يجوز ذلك لنا نحن الذين نعيش في عصر العلم ودقته؛ ذلك أن الفكر الإنساني قد اجتاز في سيره وتطوره مراحل ثلاثا: ففي المرحلة الأولى كان الإنسان يعلل الظواهر تعليلا دينيا؛ إذ يفسر كل ظاهرة بإله وراءها خاص بها، فإله للنبات - مثلا - وإله أو آلهة للنجوم وهكذا. وفي المرحلة الثانية أخذ يعلل الظواهر تعليلا ميتافيزيقيا، ومعناه أن ينسب الظواهر إلى مبادئ أولية يفرض وجودها ليشتق منها سائر الكائنات، كأن يفسر الظواهر المادية التي تقع في خبراتنا بإنكار أزلية قائمة بذاتها مجردة من المادة، فأفراد الإنسان مثلا جاءوا على غرار فكرة الإنسان، وأفراد المثلث جاءت على غرار فكرة المثلث، وأفراد الشجر جاءت على غرار فكرة الشجر وهكذا، فعلى الرغم من أن الأصول الكامنة وراء الأشياء الجزئية في هذه المرحلة الثانية من مراحل تطور الفكر لم تكن آلهة كما كانت في المرحلة الأولى، إلا أنها في كلتا المرحلتين أصول غيبية لا تقع لنا في خبرة حسية. وأما المرحلة الثالثة والأخيرة ففيها يفسر الإنسان ظواهر الطبيعة تفسيرا علميا قائما على الملاحظة الدقيقة والفروض العلمية والتجارب المحكمة، حتى إذا ما تبين لنا من هذا كله أن الظاهرة الفلانية تنشأ عن كذا وكذا من الأسباب والظروف، أثبتنا ذلك في صيغة قانون يفسر وقوعها دون حاجة إلى اللجوء إلى كائن غيبي نفسرها به.
وللمذهب الوضعي شعبة حديثة معاصرة تسمى بالمذهب الوضعي المنطقي مؤداها أن ما يجاوز حدود الخبرة الحسية ليس هو - كما ظن «أوجست كونت» وكما ظن «كانت» - متعذر المعرفة على الإنسان لقصور أدوات المعرفة عند الإنسان، وأنه لو كان مزودا بوسائل أخرى للمعرفة غير وسائله الحالية لجاز أن يكون في مستطاعه معرفة ذلك العالم الأسمى، بل هو مستحيل المعرفة بحكم تحليل اللغة نفسها التي يستخدمها من يتحدثون عن ذلك العالم الذي يجاوز حدود الخبرة الحسية الممكنة؛ إذ إن تحليل تلك العبارات تحليلا منطقيا يبين أنها عبارات بغير معنى.
ولزيادة الإيضاح أضرب هذا المثل فأقول: إنه إذا صادفتنا عبارة كهذه: «الروح حر من قيود السببية»، وسئل «النقديون» و«الوضعيون» ما رأيكم في هذه العبارة؟ لقالوا إنها تتحدث بلغة العقل (لأن السببية من المدركات العلمية القائمة على التحليل العقلي) عما هو فوق متناول العقل؛ وإذن فرفضهم لهذه العبارة قائم على أساس نفسي لا على أساس منطقي، أي أنهم يرونها عبارة ذات معنى، وكل ما في الأمر أن العقل الإنساني لا يتطاول إلى بلوغ ذلك المعنى، وربما استطاع الإنسان بلوغه بوسيلة أخرى غير العقل. أما «الوضعيون المنطقيون» فإذا سئلوا عن رأيهم في عبارة كهذه؛ رفضوها؛ لأن التحليل المنطقي لأجزائها وطريقة تركيبها يبين أنها بغير معنى، فلا يجوز قولها، لا لأنها فوق مستوى العقل، بل لأنها عبارة فارغة.
وخلاصة القول في إمكان المعرفة وحدودها هي أن «العقليين» و«التجريبيين» يرون إمكانها إلى غير حد تقف عنده، وأما «النقديون» و«الوضعيون» فيرون إمكانها بشرط أن تقف عند حدود الخبرة الإنسانية، وهنالك نفر قليل من الشكاك يرون استحالة أن يعرف الإنسان معرفة يقينية عن حقيقة العالم الذي يعيش فيه.
Bog aan la aqoon