Nazariyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Noocyada
نظرية المعرفة والعلم
إن الفلسفة - من غير شك - في حاجة إلى عملية إعادة تقويم أساسية لحدودها وقدراتها، حقا إن محاولات كثيرة كهذه قد ظهرت خلال تاريخ الفلسفة، ولكن هذه المحاولات كانت تنطوي في معظم الأحيان على قدر من المبالغة في مهمة الفلسفة لا يقل عما استهدفت هذه المحاولات ذاتها انتقاده، وها نحن أولاء - بعد خمسة قرون من التقدم العلمي المستقل بدرجات متفاوتة عن الفلسفة - نعالج في الفلسفة موضوعات مشابهة إلى حد بعيد لتلك التي كانت تعالجها الفلسفة اليونانية مثلا، والأغرب من ذلك أننا نعالجها بنفس الروح التي كان يعالجها بها الفيلسوف اليوناني، فحين يأتي فيلسوف في عصرنا الحديث بنظرية جديدة في المعرفة، أو في طبيعة العالم مثلا، نظن فعلا أن هذه نظرية جديدة، بالمعنى الذي نقول فيه عن التطورية: إنها نظرية، أو عن النسبية: إنها نظرية، ويعرض الفلاسفة المحترفون هذه النظرية كما لو كان شيء جديد قد كشف، وكما لو كانت إضافة جديدة إلى علوم الإنسان قد حدثت.
ونستطيع أن نلتمس للمفكرين القدماء كل العذر حين كانوا يقدمون فلسفاتهم على هذا النحو، ففي ذلك الحين كان الخلط بين التفكير العلمي والتفكير الفلسفي شائعا دون أن يتنبه إليه أحد، بل كانت الفلسفة هي ذاتها العلم، وهكذا كان الفيلسوف يخوض ميدان الرياضة مثلا، فيأتي فيه بآراء تعد مساهمة حقيقية في العلم، ويبحث في «الأنتولوجيا» فيأتي بآراء لا تزيد من العلم ولا تنقصه، ويبحث في الفلك فتكون بعض نتائجه إضافات إلى العلم وبعضها الآخر لغوا لا قيمة له، كل ذلك وهو يعتقد أنه في جميع هذه الحالات يقوم بنشاط فكري «مطرد» و«من نوع واحد»، أي إنه يساهم في معارف البشر حين يبحث - على سبيل المثال - في الأنتولوجيا مثلما يساهم فيها حين يأتي بنظرية رياضية أو فلكية ذات طابع علمي.
ونستطيع أن نقول: إن هذا الخلط ما زال قائما في الفلسفة إلى حد بعيد حتى في وقتنا الحالي، على الرغم من الانفصال الواضح الذي حدث منذ أمد بعيد بين مجال الفلسفة ومجال العلم، ويتمثل هذا الخلط في عدم إدراك الطبيعة الحقيقية للتفكير الفلسفي، فما زال الفلاسفة حتى اليوم لا يدركون دلالة ذلك الانفصال الأصيل بين حياة الإنسان الفعلية وبين مضمون معظم النظريات الفلسفية، وما زالوا - في اللحظات القليلة التي يتنبهون فيها إلى مجرد هذا الانفصال - يعزونه إلى نوع من التفاهة أو السطحية لتلك الحياة العملية، التي تسمى ب «اليومية» أو العقيمة أو الساذجة، ثم يظن الفيلسوف أنه قد تخلص بهذه التسمية من تلك الهوة العقيمة التي وضعها تفكيره بين آرائه النظرية وحياته الفعلية.
ولن يتسنى التخلص من هذا التناقض الأساسي بين التفكير الفلسفي وبين العالم الفعلي إلا بإدراك الطبيعة الحقيقية للتفكير الفلسفي، وقد تضمن هذا البحث محاولة لتحليل هذه الطبيعة في مجال من أهم مجالات الفلسفة، وهو نظرية المعرفة، وفي هذا التحليل انتهينا إلى أن المثالية التي تمثل أكثر الاتجاهات الفلسفية شيوعا في هذا المجال، والتي أثرت آراؤها حتى في كثير من خصومها الظاهريين، هي مذهب تفسيري فحسب، فالنظرية الجديدة في المعرفة لا تضيف شيئا إلى محتوى المعرفة البشرية، ولا تؤدي إلى تغيير في تصرف الإنسان أو سلوكه إزاء العالم الخارجي، ومع ذلك فكم من المفكرين ينظرون إلى مهمة الفلسفة في هذا المجال على هذا النحو؟ وكم منهم لا يعرضون نظريات المعرفة على أنها فعلا «نظريات» وعلى أنها تتضمن فعلا «معرفة» جديدة؟
إن هناك أسسا عديدة شائعة للتفرقة بين الفلسفة وبين العلم، ولكن هذه الأسس في نظرنا تغفل مسائل رئيسية تتحدد بها العلاقة بين الفلسفة والعلم بصورة أوضح، وهذا الإغفال راجع - قبل كل شيء - إلى الاعتقاد بأن النظريات الفلسفية التفسيرية - التي تكتفي بوصف العالم بلغة أخرى دون أن تغير من محتوى معرفتنا له أو سلوكنا فيه شيئا - هي نظريات بالمعنى العلمي لهذه الكلمة، ولا بد أن يعدل هذا الفهم لطبيعة نظريات الفلسفة، وبالتالي مشكلاتها، على نحو يزيد من إيضاح الفارق بين التفكير الفلسفي والعلمي، ولنشر هنا إلى بعض العناصر الرئيسية لطبيعة النظريات والمشكلات الفلسفية في علاقتها بالنظريات والمشكلات العلمية كما تستخلص من هذا البحث: (1)
تتميز المشكلات الفلسفية بنوع من الثبات لا يمكن أن يتمثل في مشكلات أي فرع من فروع العلم، ولو تأملنا قائمة المشكلات الرئيسية، التي يحاول كل من العالم والفيلسوف الإجابة عنها في عصور مختلفة، لوجدنا الفارق هائلا بين تغير الأولى وثبات الثانية، فالأسئلة الرئيسية التي كانت تحير العلم أيام نيوتن مختلفة عنها أيام لافوازييه أو أيام دارون، بل هي اليوم تختلف من عقد إلى آخر، وفي بعض الأحيان من سنة إلى أخرى، أما أسئلة الفلسفة فتكاد تظل كما هي، إذا استثنيا إضافة مبحث فلسفي جديد - كالبحث في القيم أو علم الجمال - من آن إلى آخر، وإن تكن الأسئلة الرئيسية في هذه المباحث الجديدة تظل بدورها متماثلة، فالفلسفة تنفرد بتلك الظاهرة الغريبة، وهي أن الأسئلة التي كان يتساءلها أفلاطون وأرسطو منذ أكثر من ألفي عام لا تبدو غريبة في نظر دارسيها المعاصرين، بل إنها تؤلف جزءا كبيرا - وفي نظر البعض الجزء الأكبر - من المشكلات التي تحاول الفلسفة اليوم إيجاد حل لها، بل إن نفس إجابات القدماء على هذه الأسئلة ما زال لها احترامها، وما زالت تعد إجابات قابلة للمناقشة في الأوساط الفلسفية، وهذا وضع غريب تنفرد به الفلسفة عن جميع علوم البشر وأبحاثهم، والمهم في هذا الوضع هو أن نحاول تعليله؛ إذ إنه - مع كونه معترفا به لدى الأغلبية الكبرى من الفلاسفة - لا يعلل تعليلا شافيا على الإطلاق.
وفي رأينا أنه إذا كان هناك ما يسمى بالعنصر الثابت في الفلسفة، فإنه راجع إلى ارتباط الفلسفة بالموقف الطبيعي لا العلمي، فكل المعارف التي ترتبط بالموقف العلمي تتطور مع العلم في تاريخه الذي سار في تغير مطرد كان بطيئا أول الأمر، ثم أصبحت سرعته الآن لا تكاد تسمح بملاحقته، أما الموقف الطبيعي فلا تغير فيه: فإدراك الإنسان للعالم الخارجي هو هو لم يتغير، ولا نستطيع أن نقول: إن الإنسان كان يدرك الجبل أيام أفلاطون بطريقة تختلف عن طريقة إدراكه له اليوم، أو كان يستخدم قدميه في تسلقه بطريقة مغايرة، وكما قلنا من قبل، فإن الفلسفة قد اتخذت من هذا الموقف الطبيعي موضوعا لتفكيرها، وإن تكن في معظم الأحيان قد أتت «بنظريات» تخالفه (على المستوى الفكري لا العملي)، وفي رأينا أن هذا الارتباط بين موضوع التفكير الفلسفي وعناصر الموقف الطبيعي هو الذي أضفى على المشكلات الفلسفية هذا الثبات، وإذا كانت الفلسفة هي المبحث الوحيد الذي لم يطرأ عليه تغير يناظر أو يقترب من تغير أبطأ العلوم تطورا؛ فذلك راجع أيضا إلى أنها هي المبحث الوحيد الذي لا يملك من المنهج ومن الأساليب أو الوسائل ما يمكنه من النظر إلى موضوعاته من الزاوية العلمية، وإنما يضطر إلى اتخاذ نقطة بدايته من عالم الإنسان كما يحيا حياته اليومية، فما حدث عندما قال باركلي - مثلا - بلا مادية العالم الخارجي، لم يكن تجربة علمية توصل منها إلى أي شيء، ولم يكن نظرة إلى موضوعات إدراكنا بوسائل غير الوسائل التي ندركها أو نفكر فيها بها، وإنما قال: «إن نفس هذه المنضدة التي أدركها في موقفي الطبيعي على أنها مادية لا بد أن تكون غير مادية؛ لأن استدلالاتي المنطقية التي طبقتها عليها تؤدي إلى هذه النتيجة.» ولما كانت هذه المنضدة ذاتها - أو «الأشياء» المحيطة بنا - هي نفسها موضوع تفكير أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت (مع اختلاف النتائج التي وصلوا إليها بشأنها)، فليس من الصعب عندئذ أن نفسر ثبات موضوعات التفكير الفلسفي.
والذي يحدث هو أن الباحثين في نظرية المعرفة - من الفلاسفة - كانوا يعملون على تحليل الطريقة التي يعرفون بها هذا العالم المحيط بنا - وهو نفس العالم على الدوام - عن طريق ما يمكن أن نسميه ب «الاستبطان المعرفي»: أي إن كلا منهم كان يرقب ما يحدث في نفسه حين يقول إنه يعرف، وعلى أي نحو تكون علاقته بالموضوعات عندئذ، ثم يطلع علينا بنظريته، ولا شك في أن اتجاه ونتيجة هذه النظرية - ولا سيما من حيث مخالفتها أو موافقتها للموقف الطبيعي - يتوقف على العامل «المعنوي» الذي أشرنا إليه في الفصل السابق، ولكن المنهج الذي يتبعه الفيلسوف، والوسائل التي يبرر بها نتائجه، لا تعدو أن تكون ملاحظة ووصفا لما يحدث بالفعل خلال تلك العملية التي يسميها بعملية المعرفة، وهنا أيضا نجد مبررا لثبات الأبحاث الفلسفية في هذا الميدان الذي لا يمكن أن يطرأ على الوسائل المتوافرة لدى الفلاسفة فيه تغير.
وإذن، ففي وسعنا أن نجد تعليلا لثبات الأبحاث الفلسفية - في ميدان نظرية المعرفة - بتأمل «موضوع» تلك الأبحاث، وهو الذي يتخذ نقطة بدايته من عالم الأشياء كما تتبدى للإنسان في موقفه الطبيعي، وبتأمل «وسيلة» أو «منهج» تلك الأبحاث، وهو تحليل الفيلسوف لتجربته في المعرفة، وهي تجربة قد يتغير محتواها ولكن شكلها وإطارها الرئيسي لا يتغير، وإذن فالتعليل الوحيد لثبات الأبحاث الفلسفية - في الميدان الذي نتناوله في هذا البحث - هو ارتباطها بالموقف الطبيعي، وصحيح أن النتائج التي ينتهي إليها معظم الفلاسفة تخالف هذا الموقف، ولكن المهم في الأمر هو أنه يمثل نقطة بداية الأبحاث الفلسفية، والمعيار الذي تقاس به الخلافات بين المذاهب. (2)
Bog aan la aqoon