Nazariyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Noocyada
والخطر الأكبر في الموقف المثالي هو خطر ظهور المعنى الأول، أو الخلط بينه وبين الثاني، ويرجع هذا الخطر إلى أن المثاليين أنفسهم لا يحددون معيارا للتفرقة بين المعنيين، حتى ليبدو أن فكرة انتساب موضوعات المعرفة إلى الإنسان يمكن أن تفهم - عند كثير من المثاليين - بأنها انتساب المعرفة إلى «الفرد»، ومن هنا كانت كثير من المذاهب المثالية تتعرض للوقوع في مذهب «الذات الوحيدة
Solipsisme »، وهكذا يمكن القول: إن القوة الدافعة إلى إنكار مثل هذه النسبية هي وضع حد للخلط بين ما هو منتسب عامة، وما هو منتسب للفرد.
ومن جهة أخرى لا يمكن أن ينكر أحد كون الأشياء التي نعرفها متصلة بنا، ومنسوبة إلينا «على نحو ما»، ولكن مثل الانتساب عام مشترك بين كل أفراد الناس إلى حد أن التنبيه إليه غير مجد، فهو كالحد المشترك بين طرفي كسر، يحسن دائما حذفه من الطرفين معا؛ ولهذا فلا ضير على الإطلاق - رغبة في التمييز بين المعنيين - من الاحتفاظ بمعنى النسبية للمعنى الأول، أما ما هو نسبي بالمعنى الثاني، فيمكن أن يسمى شيئا في ذاته، لا بالمعنى الكنتي وإنما بالمعنى «الإنساني» إن صح هذا التعبير، أي بمعنى أنه هو ما تتفق عليه جميع الأذهان، ولا يدركه الجميع إلا على نحو واحد. (4) «مذهب الظاهريات» والموقف الطبيعي
وصف كثير من شراح «هوسرل» فلسفته بأنها «مثالية ترنسندنتالية»، وهو وصف يدل - إذا صح - على أن مذهب الظاهريات كان مضادا للموقف الطبيعي، على أن هوسرل قد انفرد عن كثير من المثاليين بمناقشاته المطولة للموقف الطبيعي، وهي مناقشات تفيد في إلقاء الضوء على ذلك النوع الخاص من المثالية الذي دافع عنه هوسرل، وكذلك على معنى الموقف الطبيعي ذاته ووجهة نظر مذهب الظاهريات إزاءه، ولما كان الهدف من العرض الموجز الذي نقدمه لهذا الموضوع هو إيضاح مرحلة أخرى من مراحل المثالية أو شكل آخر من أشكالها، وليس بحثا استقصائيا لتفكير هوسرل في هذا الموضوع، فسوف نكتفي ها هنا بالرجوع إلى ما نعتقد أنه أوضح عرض قدم فيه هوسرل آراءه المتعلقة بالموقف الطبيعي، وهو المجلد الأول من كتاب «أفكار
Ideen ».
وأول ما ينبغي أن نشير إليه هو أن من الضروري التفرقة بين لفظي: «المذهب الطبيعي أو النزعة الطبيعية
naturalisme » و«الموقف الطبيعي
attitude naturelle » عند هوسرل، فالمذهب الطبيعي - كما ينقده هوسرل - هو تلك النزعة التي تطورت نتيجة لتقدم العلوم الطبيعية وتطبيق مناهجها في شتى المجالات، بحيث أصبح هناك «اتجاه» كامل نحو اتخاذ العلم الطبيعي أنموذجا لكل من المعرفة، حتى في مجال معرفة الإنسان (علم النفس)، وهذا هو الاتجاه الذي ركز هوسرل جهوده على نقده في مؤلفات أهمها «الفلسفة علما دقيقا»، ولقد كان نقد هوسرل لهذا المذهب هو جانب من أهم جوانب رسالته في الفلسفة، غير أن من الواجب أن نتذكر أن هذه المعركة مرتبطة بمرحلة معينة من مراحل تاريخ العلم الأوروبي، هي تلك التي سادت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي بدا فيها للكثيرين أن منهج العلوم الطبيعي يصلح للانطباق على كل المجالات، حتى مجال الكتابة الأدبية ومعرفة النفس البشرية ذاتها، ومن هنا كان هدف هوسرل من محاربة هذه النزعة هو صد التيار الجارف الذي يرمي إلى «تطبيع» الإنسان، وإغفال ما ينفرد به الوعي الإنساني عن سائر الموضوعات التي يمكن أن ينطبق عليها منهج العلوم الطبيعي.
أما رأي هوسرل في «الموقف الطبيعي» - وهو الذي يعنينا هنا أكثر من غيره - فيتعلق باتجاه أو نزوع ثابت لا علاقة له بمرحلة معينة من مراحل تطور العلم، إنه موقف الإنسان «المتجه إلى العالم»، والذي يتعامل مع هذا العالم بوصفه حقيقة قائمة بذاتها، ويقبل العالم على ما هو عليه، ويندمج فيه على هذا الأساس، ومن الواضح أن المواقف التي اتخذها هوسرل من هذا الموضوع لا شأن لها بمعركته مع المذهب الطبيعي؛ إذ إن ما يحلله هوسرل تحت باب «الموقف الطبيعي» ليس على الإطلاق ظاهرة مرهونة بعصر معين، ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نتصور نوعا من الاتصال بين المجالين: فالمذهب الطبيعي في العلم لا بد أن يتضمن تصورا للعالم قائما على أساس الموقف الطبيعي، ولكنا سنظل مع ذلك قادرين على تصور الموقف الطبيعي (في حالة الإنسان العادي أو مفكري العصور القديمة مثلا)، بغض النظر عن تلك المرحلة العلمية التي أدت إلى سيادة المذهب الطبيعي.
فهل خاض هوسرل - ضد الموقف الطبيعي - معركة مماثلة لتلك التي خاضها ضد المذهب الطبيعي في العلم وفي دراسة الإنسان؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي الكفيلة بأن تحدد موقع فلسفة الظاهريات وسط مجموعة المذاهب المثالية التي تنكر الموقف الطبيعي بصورة أو بأخرى:
Bog aan la aqoon