Nazariyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Noocyada
نستطيع من وجهة نظر الموقف الطبيعي أن نفرق بين المثالية «المادية» عند باركلي وبين المثالية «الظاهرية» عند «كانت» على أساس أن الأولى تعد الخروج عن الموقف الطبيعي «نتيجة» نهائية، أما الثانية فتعده المقدمة الأولى لها، والمظهر الأول لأصالة منهجها، فمن الواضح أن باركلي لم ينتقل إلى القول بأن وجود الشيء هو كونه مدركا إلا بعد تفكير متدرج مرت به فلسفته هو ذاته ومرت به الفلسفات الحديثة السابقة عليه، حين أخذت ترد المزيد من صفات الأشياء تدريجيا إلى الذات، فكانت النتيجة الطبيعية في النهاية هي التخلي عن الموقف الطبيعي على نحو ما فعل باركلي، أما بالنسبة إلى «كانت» فالمسألة ليست استدلالا أو تطورا تدريجيا، بل هي منهج جديد وضعه بإرادته، وحاول فيه أن يجعل الأشياء تدور حول محور الذات، أي أن يتخذ عمدا - ومنذ البدء - الموقف المضاد للموقف الطبيعي، وتلك - بلا شك - طريقة أكثر فعالية في محاربة الموقف الطبيعي، ومن هنا كان قول شوبنهور في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «العالم إرادة وتمثلا»: «إن تعاليم «كانت» لتحدث تغييرا أساسيا في كل ذهن استوعبها ... فهي وحدها القادرة فعلا على إزاحة الواقعية الفطرية التي تنشأ عن الميل الأصلي للعقل، وهذا أمر لا يقدر عليه باركلي ولا ما لبرانش ... ونتيجة لذلك تنكشف عن العقل غمامته تماما، وينظر إلى كل الأشياء بعد ذلك في ضوء جديد ... أما من لم يستوعب فلسفة «كانت» ... فهو في حالة البراءة، أي إنه يظل واقعا تحت سيطرة تلك الواقعية الطبيعية الطفلية التي نولد كلنا فيها، والتي تؤهل المرء لكل شيء ممكن ما عدا الفلسفة.»
ويبدو أن «كانت» كان يقصد باركلي حين تساءل في مستهل مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص»، في صدد حديثه عن أسبقية التجربة في كل معرفة لنا «... كيف تدفع ملكة المعرفة لدينا إلى العمل ما لم تكن الأشياء التي تؤثر في حواسنا تنتج من ذاتها - من جهة - تمثلات، وتثير - من جهة أخرى - نشاط ذهننا ليقارن هذه التمثلات، ويقوم - عن طريق الجمع بين المادة الخام للانطباعات الحسية أو التفريق بينها - بتحويل هذه المادة إلى تلك المعرفة بالأشياء المسماة بالتجربة؟ وهكذا يتضح لنا المعنى الذي قصده «كانت» حين أطلق على فلسفة باركلي اسم «المثالية المادية»؛ فباركلي يجعل من الذهن - الإلهي أو البشري - مصدرا للحدس ولكل صورة أو ترتيب يظهر به ذلك الحدس. أما بالنسبة إلى «كانت» فالحدس «معطى»، ودور الذهن ينحصر في بعث الوحدة والنظام والترتيب في ذلك الحدس، وهنا قد يبدو أن مثالية «كانت» أخف حدة من مثالية باركلي، ولكن الواقع أن درجة الخروج عن الموقف الطبيعي لا تقل عند «كانت» عنها عند باركلي؛ ذلك لأن هذا الحدس الذي أخرجه من سلطة الذهن هو مجرد مادة للإدراك لا تعرف إلا من خلال التشكيل الذهني، ولا تفهم إلا بما فيها من صور وقوالب ذهنية، فلم يكن قول «كانت» إذن: إن صورة الإدراك - لا مادته - هي التي تأتي من الذهن، لم يكن هذا القول في واقع الأمر محاولة للاقتراب من الموقف الطبيعي على الإطلاق؛ إذ إن مادة الإدراك عنده مجرد مجهول لا قيمة له في أية معرفة، ولا يمكن للمرء الوصول إليه مهما بذل من جهد، بل إنها بالنسبة إلى فلسفة «كانت» تكملة منطقية لبناء المذهب فحسب.»
ففي نفس الوقت الذي أكد فيه «كانت» أن كل معرفة لنا تبدأ بالتجربة، حرص على أن يوضح ذلك بأنه لا يعني أنها كلها تنشأ «عن التجربة»؛ «إذ إن من المحتمل أن تكون التجربة ذاتها مؤلفة مما نتلقاه من الانطباعات وما تقدمه ملكة المعرفة ... بذاتها.» (مقدمة الطبعة الثانية)، وأستطيع أن أقول: إن كلمة «من المحتمل» هنا ليست تعبيرا عارضا، بل إنها تكشف عن وجه في المثالية الظاهرية عند «كانت»، هو أن هذه المثالية قدمت في البداية على أنها فرض قيم قد يفيد في إرساء الميتافيزيقا على أسس علمية متينة، فمنذ مقدمة الطبعة الثانية يوضح «كانت» هدفه بأنه محاولة بناء الميتافيزيقا على أسس راسخة كتلك التي تبنى عليها الرياضة والطبيعة، وهو لهذا الغرض يجرب طريقا آخر لتفسير العلاقة بين الأشياء والذهن غير طريق الموقف الطبيعي، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن فلسفة «كانت» النظرية كانت ثورة كبرنيكية، لا بمعنى أنه أراد منها أن تحدث انقلابا شاملا في تحديد العلاقة بين الأشياء والذهن فحسب، بل أيضا بمعنى أنها - كالنظرية الكبرنيكية الفلكية - كانت «فرضا» خاضعا للتحقيق، وينبغي الحكم عليه حسب ما يؤدي إليه من نتائج، ومن هنا كان علينا أن نعامل فلسفة «كانت» النظرية بأسرها على أنها «فرض»، أو محاولة قصد بها النظر إلى الأشياء في ضوء جديد، هو ذلك الذي تكون فيه الأشياء «دائرة في فلك الذات» - إن جاز هذا التعبير، وأن نحاول إصدار حكم على هذه الفلسفة في هذا الضوء، ونعاملها - كأي فرض علمي - حسب قدرتها على تحقيق الهدف الذي وضعته لذاتها منذ البداية، وتفسيرها للظواهر الواقعة في نطاقها تفسيرا سليما.
ومن أوضح الأدلة التي تؤيد هذه النظرة إلى فلسفة «كانت» النظرية على أنها «فرض» مضاد للموقف الطبيعي وضعه «كانت» معتقدا أنه سيفسر به الظواهر الميتافيزيقية تفسيرا أسلم، تلك السلسلة العديدة من التعبيرات المثالية التي استهل بها «كانت» مناقشاته الفلسفية في كتاب «نقد العقل الخالص»، دون أن يبذل مجهودا يذكر للبرهنة عليها، ففي بداية «الحساسية الترنسندنتالية» - أي في بداية أول موضوع يناقشه «كانت» في ذلك الكتاب بعد المقدمات والتصديرات - يأتي «كانت» ببضعة تعريفات، ضمنها تعريف للإحساس بأنه «تأثير الموضوع في ملكة التمثل، بقدر ما تتأثر بهذا الشيء ... والحدس يكون تجريبيا إذا اتصل بالموضوع عن طريق إحساس، والموضوع غير المحدد للحدس التجريبي يسمى «مظهرا».»
18
هنا يتحدث «كانت» عن الموضوع «غير المحدد» للحدس التجريبي، ويطلق عليه اسم «المظهر»، وهذه التسمية وحدها تجر وراءها الموقف المثالي بأسره، مع أنها لا تبدو هنا إلا في صورة تعريف تمهيدي، وأفضل تعليل لهذا الاستخدام غير المسبوق ببرهان لكلمة «المظهر»: ما تتضمنه من ضرورة القول بأشياء في ذاتها، وبأن هذه الأشياء في ذاتها مجهولة، ما دام موضوع الحدس التجريبي هو ما ينقل إلينا المحسوسات، نقول: إن أفضل تعليل لذلك هو أن «كانت» قد أراد منذ البداية اتخاذ ذلك الموقف المثالي الذي يسمى «بالمظهر» ما نطلق عليه في موقفنا المعتاد اسم «الشيء»، والذي يعتقد بوجود حقيقة أخرى وراء ما ندركه من الشيء، لا تنقلها إلينا الحواس، وربما كانت غير قابلة للنقل على الإطلاق.
وهو يحدد دور الحاسة الخارجية في تكوين فكرة المكان فيقول: «عن طريق الحاسة الخارجية - وهي صفة لذهننا - نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجة عنا، وموجودة ... في المكان (ص
B. 37 ) وهكذا تكون نقطة بداية المناقشة - لا نتيجتها النهائية - هي أن المكان ناتج عن الحاسة الخارجية التي هي صفة لذهننا، وأن خارجية الأشياء من صنع ذهننا، وكل ما في الأمر هو أننا «نمثل لأنفسنا» الأشياء على أنها خارجة عنا، أما كيف كانت الأشياء قبل أن «نمثلها لأنفسنا» فهذا ما لا يجيب عنه «كانت».
والأمر الذي لا شك فيه أن هذا الفرض في نظر «كانت» ناجح كل النجاح: فعلى أساسه يستطيع تبرير الرياضة والطبيعة تبريرا أوليا، ويستطيع أيضا أن يمكن الميتافيزيقا من أن تسير في «طريق العلم المأمون»، هذا ما اعتقده «كانت» حين وضع مؤلفاته، ولكن التطور التالي قضى - كما هو معروف - على كل المبررات التي وضعها لمذهبه: فالرياضة والطبيعة سارتا في اتجاه مخالف تماما لذلك العلم «الخالص» الذي تصوره، والميتافيزيقيا اشتدت خلافاتها الداخلية وتناقضات مذاهبها حتى أصبحت أبعد مما كانت في أي وقت مضى من «طريق العلم المأمون».
ولكن الذي يعنينا الآن هو أن «كانت» مضى في فلسفته مرتكزا على هذا الموقف الجديد، الذي تكون فيه الأشياء دائرة حول الذات ومعتمدة عليها، وقد عبر «كانت» عن هذا الموقف أوضح تعبير في هذا النص الذي نقتبسه من «الملاحظات العامة على الحساسية الترنسندنتالية»: ... إن كل حدس لنا ليس إلا تمثلا لمظهر، وإن الأشياء التي ندركها بالحدس ليست في ذاتها على نحو ما ندركها بالحدس، وإن تركيب علاقاتها ليس في ذاته على نحو ما يبدو لنا، وإنه إذا ما أزيلت الذات، أو حتى التركيب الذاتي للحواس بوجه عام فحسب، لاختفى كل تركيب للأشياء وكل علاقاتها في المكان والزمان، بل لاختفى الزمان والمكان ذاتهما، فهما - بوصفهما مظاهر - لا يمكن أن يوجدا في ذاتهما، بل فينا نحن فقط، أما ما قد تكونه الأشياء في ذاتها مستقلة عن كل قدرة لحساسيتنا على تلقيها فذلك ما يظل مجهولا لدينا تماما، ونحن لا نعرف إلا طريقتنا في إدراكها، وهي طريقة خاصة بنا، ولا يشارك فيها كل موجود بالضرورة، وإن كان كل كائن بشري يشارك فيها حتما.
Bog aan la aqoon