وأنه يستبكى ولا يبكي، ويسترحم ولا يرحم، ويحرك النفوس وهو ساكن، ويثير الثائرة وهو سالم، فيستريبون به، ويحارون في مصادره وموارده، ثم يحملون أمره على شر حاليه، ثم ينقطع ما بينهم وبينه، والبيان ليس سلعة من السلع التي يتنقل بها تجارها من سوق إلى سوق، ومن حانوت إلى آخر، ولكنه حركة طبيعية من حركات النفس تصدر عنها عفوًا بلا تكلفٍ، ولا تعمل صدور النور عن الشمس، والصدى عن الصوت، والأريج عن الزهر، وشعاع لامع يشرق في نفس الأديب إشراق المصباح في زجاجته، وينبوع ثرار يتفجر في صدره، ثم يفيض على أسلات قلمه، وهو أمر وراء العلم واللغة والمحفوظات والمقروءات والقواعد والحدود، ولو أن أمرًا من ذلك كائن لكان أبرع الكتاب، وأشعر الشعراء أغزرهم مادة في العلم أو أعلمهم بقواعد اللغة أو أجمعهم لمتونها أو أحفظهم لفصيح القول ورائعه، أما العلم فأكثر المؤلفين الذين تركوا بين أيدينا هذه الأسفار التي نقرأها في الشريعة والحكمة والمنطق وغيرها كانوا علماء ما يتدافع في ذلك اثنان، وها قد مرت علينا وعلى ما تركوه بين أيدينا القرون والحقب، وأكثرنا عاجز عن فهم أكثر ما كانوا يكتبون، وأما المحفوظات فما نعلم أحدًا أحفظ لكتاب
1 / 33