فقال عبد الملك: شربتها يا أخا العرب ووجب عليك الحد! فقال: ومن أين لك ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك وصفتها بصفتها. فقال: وإني قد رابني من أمير المؤمنين ما رابه بأن يكون أيضا شربها؛ إذ عرف أني وصفتها بصفتها. فضحك منه، وأحسن جائزته.
عبد الملك بن مروان وخالد بن عبد الله
جلس يوما عبد الملك بن مروان وعند رأسه خالد بن عبد الله بن أسيد، وعند رجليه أمية بن عبد الله بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه، فقال: هذا والله التوفير، وهذه الأمانة، لا ما فعل هذا (وأشار إلى خالد) استعملته على العراق فاستعمل كل مسلط فاسق، فأدوا إليه العشرة واحدا، وأدى إلي من العشرة واحدا، واستعملت هذا على خراسان (وأشار إلى أمية) فأهدى إلي برذونين حطمين، فإن استعملتكم أضعتم، وإن عزلتكم قلتم: استخف بنا وقطع أرحامنا! فقال خالد بن عبد الله: استعملتني على العراق وأهله رجلان؛ سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح، فأما السامع المطيع المناصح: فإنا جزيناه ليزداد ودا إلى وده، وأما المبغض المكاشح: فإنا رأينا خفته وحللنا حقده، وأكثرنا له المودة في صدور رعيتك، وإن هذا جبى الأموال، وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال، فتوشك أن تثبت البغضة بلا أموال ولا رجال. فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: هذا والله ما قال خالد.
عطاء بن أبي رباح وهشام بن عبد الملك
قال عثمان بن عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي يزيد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا بشيخ على حمار أسود وعليه قميص دنس، وجبة دنسة، وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب، فضحكت منه، وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت، هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح. فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره فاعتنقا وتساءلا، ثم عادا فركبا وانطلقا حتى وقفا على باب هشام، فما استقر بهما الجلوس حتى أذن لهما، فلما خرج أبي قلت له: حدثني ما كان منكما. قال: لما قيل لهشام: إن عطاء بن أبي رباح بالباب أذن له، فوالله ما دخلت إلا بسببه، فلما رآه هشام قال: مرحبا مرحبا ها هنا ها هنا. ولا زال يقول له: ها هنا. حتى أجلسه معه على سريره، ومس بركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فقال له: ما حاجتك يا أبا محمد. قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين أهل الله، وجيران رسوله، تقسم عليهم أرزاقهم وعطياتهم. قال: يا غلام، اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد هم أصل العرب وقادة الإسلام، ترد فيهم فضول صدقاتهم. قال: نعم، يا غلام، اكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم، وهل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور يرون من ورائكم، ويقاتلون عدوكم، تجري لهم أرزاقا تدرها عليهم، فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور. قال: نعم، يا غلام، اكتب بحمل أرزاقهم إليهم، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا يجبى صغارهم ولا ينتفع كبارهم، ولا يكلفون ما لا يطيقون، فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم. قال: نعم، يا غلام، اكتب لأهل الذمة بأن لا يكلفوا ما لا يطيقون، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك من أحد. فأكب هشام ينكث في الأرض وهو يبكي، فقام عطاء، فلما كنا عند الباب إذا برجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه دنانير أم دراهم، فقال: إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا. فقال: أنا لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على رب العالمين. فوالله ما شرب عنده قطرة ماء.
ابن المهلب والوليد وسليمان بن عبد الملك
أخذ الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب وعذبه، واستأصل موجوده، وسجنه، فاحتال يزيد بحسن تلطفه، وأرغب السجان واستماله، وهرب هو والسجان، وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك، وكان الخليفة إذ ذاك الوليد بن عبد الملك، فلما وصل يزيد بن الملهب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه وأقام عنده، فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن، وأنه عند سليمان بن عبد الملك أخي أمير المؤمنين، فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك، فكتب سليمان: «يا أمير المؤمنين، إني أجرت يزيد بن المهلب؛ لأنه مع أبيه وإخوته أحباء لنا من عهد أبينا، ولم أجر عدوا لأمير المؤمنين، وقد كان الحجاج عذبه وغرمه دراهم كثيرة ظلما، ثم طلب منه بعدها مثل ما طلب أولا، فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يخزيني في ضيفي فليفعل؛ فإنه أهل الفضل والكرم»، فكتب إليه الوليد: «إنه لا بد من إرسال يزيد مقيدا مغلولا»، فلما ورد ذلك الكتاب على سليمان أحضر ولده أيوب فقيده، ثم دعا بيزيد بن المهلب وقيده، ثم شد قيد هذا إلى قيد هذا بسلسلة، وغلهما جميعا، وحملهما إلى أخيه الوليد، وكتب إليه: «أما بعد؛ يا أمير المؤمنين، فقد وجهت إليك يزيد وابن أخيك أيوب بن سليمان، وقد هممت أن أكون ثالثهما، فإن هممت يا أمير المؤمنين بقتل يزيد فبالله عليك فابدأ بقتل أيوب، ثم اجعل يزيدا ثانيا، واجعلني إن شئت ثالثا، والسلام»، فلما دخل يزيد بن المهلب وأيوب بن سليمان على الوليد - وهما في سلسلة - أطرق الوليد؛ استحياء، وقال: لقد أسأنا إلى أبي أيوب؛ إذ بلغنا به هذا المبلغ. فأخذ يزيد يتكلم ويحتج لنفسه، فقال له الوليد: ما يحتاج إلى الكلام، قد قبلنا عذرك، وعلمنا بحكم الحجاج. ثم استحضر حدادا فأزال عنهما الحديد، وأحسن إليهما، ووصل أيوب ابن أخيه بثلاثين ألف درهم، ووصل يزيد بن المهلب بعشرين ألف درهم، وردهما إلى سليمان، وكتب كتابا للحجاج مضمونه: «لا سبيل لك على يزيد بن المهلب، فإياك أن تعاودني فيه بعد اليوم»، فسار يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك، وأقام عنده في أعلى المراتب وأفضل المنازل.
سليمان بن عبد الملك والشيخ
دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخا فقال: يا شيخ، أيسرك أن تموت؟ فقال: لا والله. قال: لم وقد بلغت من السن ما أرى؟! قال: فني الشباب وشره، وبقي الشيب وخيره، فأنا إذا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحب أن تدوم لي هاتان الحالتان.
ابن أبي الجهم وهشام بن عبد الملك
Bog aan la aqoon