أصبح معلوما أن كثيرا من الأقباط في مصر يسمون أولادهم بأسماء إنكليزية منذ سنين وأنهم يختارون لهم في الغالب أسماء كبار الرجال الذين يخدمون مصر من أهل إنكلترا، وقد اتفق أن سيدة قبطية من الفيوم كانت تتنزه على شاطئ البحر في الرمل ومعها ولدان أحدهما اسمه «كتشنر» والآخر «روزفلت»، وبينما هي كذلك أخذ كتشنر في الجري على الرمل فابتعد عنها قليلا فأخذت تناديه: «يا كتشنر ... ارجع يا كتشنر.» إلى أن رجع وكان بعض الجنود الإنكليزية يتمشون في نفس الوقت على الشاطئ فدهشوا من تكرار المناداة باسم كتشنر، وجعلوا يلتفتون يمينا وشمالا فوقع نظرهم على كتشنر الفيومي الصغير راكضا نحو أمه، فوقفوا في سبيله وجعلوا يمازحونه ويكلمونه بالإنكليزية، ولما رأوا أنه لا يعرف هذه اللغة أفرغوا له ما يعرفونه من الكلمات العربية نظير «سعيدة» وغيرها وأعطوه بعض القروش بالرغم من إلحاح والدته بعدم القبول وانصرفوا مسرورين من وجود كتشنر صغير في مصر. •••
كتب أحد مكاتبي الجرائد المرافق للجنود الإيطاليين من فرقة البرسلياري يقول: «ظن النمسويون الممتنعون في قمة الجبل في مضيق رول الصعب المنال أنهم في مأمن من أعدائهم الإيطاليين، وأن موقعهم أشد مناعة من عقاب الجو؛ فكانوا كل يوم يرفون عقيرتهم بالشتائم والسب للإيطاليين المعسكرين في أسفل الوادي فيسمعهم هؤلاء ويتميزون غيظا، وفي ليلة من الليالي ابتدأ جنود فرقتين من الجنود البرسلياري أن يتسلقوا صخور الجبال الشاهقة نحو قمة الجبل من جميع جهاته، وأحاطوا بموقع النمسويين إحاطة الهالة بالقمر قبلما ينبلج نور الصباح، ولم تكد الشمس تشرق حتى هجموا على النمسويين من جهات مختلفة كالأسود الضواري فأخذوهم على غرة ولم يجد النمسويون بدا من التسليم فرفعوا أيديهم، ووجد الإيطاليون المكان محصنا بالخنادق والحفر والأنفاق كأنه وكر نمل وبلغ عدد الذين سلموا من غير قتال 300 جندي و11 ضابطا وغنم الإيطاليون عدة مدافع سريعة الانطلاق.» •••
حرب المدافع: لقد مضى الزمن الذي كان يصوب فيه رماة المدافع مدافعهم إلى الهدف الذي يرونه بأعينهم وتغيرت حرب القتال بالمدافع تغيرا عظيما؛ فالطوبجية في معظم الأحيان لا يرون الأماكن التي يصوبون إليها فوهات مدافعهم ولا يعرفون لها رسما أو شكلا بل يتبعون التعليمات والإرشادات التي يرسلها إليهم المراقبون المستطلعون الذين قد يكونون على مسافة أميال بعيدة عن المدافع، ورأى أحدهم شكل مخفر استطلاع بناه الفرنسويون بين فروع شجرة عالية؛ فصنعوا غرفة صغيرة من الخشب في أعلى الشجرة، ومدوا إليها سلالم وأوصلوا من الغرفة إلى مركز الطوبجية سلكا تليفونيا وجعلوا يستطلعون مواقع الأعداء بنظاراتهم القوية، ويرشدون مدافعهم إلى وقع القنابل وتأثيره بالتلفون، وعلى هذا النمط أقام الفرنسويون مخافر عديدة على طول خط القتال، ووضعوا لكل ميل من استحكامات الأعداء جنودا واقفين للأعداء بالمرصاد ليلا مع نهار، ولا يعدم الفرنسويون حيلة في إقامة مخافر عالية الاستطلاع في الأماكن التي ليس فيها أشجار عالية؛ إذ يطلقون بالوناتهم المقيدة في الجو أو يطيرون طياراتهم فتحلق في السماء مستطلعة أو يقيمون المخافر على قمم الجبال وعلى سطوح المنازل وفي البيوت التي تقع في منطقة القتال. •••
لما رأى الفرنسويون ما فعله الألمان بكتدرائية ريمس المشهورة من التخريب والتدمير بإطلاقهم قنابل مدافعهم عليها وخرقهم حرمة الكنائس والمعابد وطدوا النفس على أن يصونوا معابدهم وكتدرائياتهم في جميع المدن التي في منطقة القتال؛ فلجئوا إلى طريقة مثلى يصونون بها هذه الكنائس ولا سيما أبوابها الجميلة المنقوشة نقشا تاريخيا جميلا بديعا بوضعهم أكياس الرمل والتراب حوله دكا رصافا فإذا سقطت قنبلة على الأكياس وانفجرت وتطايرت شظاياها لم تصب إلا رملا وترابا وصين ما وراءها من نقوش جميلة وتماثيل دقيقة. •••
كان الحلفاء والجرمان يحاربون معا على السواء عدوا بريا شرسا هو الفئران والجرذان، وقد علت شكوى الجنود في الخنادق من هذه «الزعانف» التي عمت أضرارها، فكانت الجرذان تتبع الجنود أينما ذهبوا فلا يكادون يحفرون خندقا ويتوارون فيه حتى يزحف عليهم جيش من الجرذان يلتهم طعامهم التهاما، ولا يبقى لهم على شيء، وكثيرا ما تكشر الجرذان عن أنيابها وتعض الجنود وهم نائمون في خنادقهم، ولما استفحل أمر الجرذان ولم يعد احتمال أذاها في الإمكان رأت قيادة الجيش أن تطلق عليها الكلاب؛ فأطلقت ألوفا من الكلاب في الخنادق فجعلت تطارد الفئران والجرذان إلى كل وكر وفي كل مكان حتى خفت وطأة ذلك العدو الثقيل. •••
كان الجنود الإنكليز المعسكرون بسلانيك يقاسون الأمرين من الكلاب الضالة التي تتلصص تحت جنح الظلام إلى ما بين الخيام وتلتهم ما تمر به من المأكولات الغذائية التي لا يجد الجنود مكانا لحفظها فيه، وقد فتق لأحد الجنود حيلة غريبة عمد إليها فإنه نقر في جوف شجرة كبيرة نقرا واسعا أودع فيه مأكولاته التي يسطوا الكلاب عليها، ووضع في فتحة النقر بابا من الحديد ليدخل النور والهواء إلى مأكولاته فلا تفسد وليتسنى له مراقبتها من حين إلى آخر. •••
نقل المأكولات بالطيارة: حاصر العثمانيون الجنرال توتشند والحامية الإنكليزية في مدينة كوت الإمارة في العراق خمسة أشهر كاملة، ثم اضطرت الحامية إلى التسليم وكان ذلك في آخر شهر مارس 1916 وكانت طيارة تنقل إلى رجال الحامية أكياسا فيها قمح وسكر فتطير من مواقع البريطانيين جنوبا موقورة بالمأكولات ومحلقة فوق مواقع الأعداء فكوت الإمارة، ثم تنزل فيها، وكثيرا ما كانت هذه الطيارات تطير ولا تهبط على الأرض فتلقى رزما فيها بن وشاي ودقيق ومهمات لازمة لصيد السمك وإقامة تلغرافات لاسلكية وسجاير ودخان، فما أعظم الفرق بين الطيارات السلمية التي تلقي على الناس المأكولات وأنواع الحلوى والدخان والطيارات العدائية التي تلقي قنابل الموت والتخريب! •••
الطيارات في الإسكندرية: قالت جريدة البصير الإسكندرانية: «لما حلقت الطيارات المائية البريطانية ذات يوم على مدينة الإسكندرية من الشرق إلى الغرب، ثم إلى الجنوب شاهد أحد رجال البوليس الذي كان في الخدمة بميدان محمد علي إحداها فأمر المارين أن يدخلوا إلى الأغوار السفلى من المنازل والحوانيت ظانا أنها طيارة للعدو، ولما تيقن أنها بريطانية ضحك على نفسه وانصرف.» •••
يموت قرير العين: جرت حادثة ولا كالحوادث في تأثيرها في ميدان الفوج، ذلك أن ضابطا فرنسويا ذا رتبة عالية في فرقة الرماة الجبليين سقط إثر إصابته بجروح بالغة في مكان مكشوف يتسلط الأعداء عليه، وكانت جروحه تنذر بدنو أجله، ولم يستطع جنوده أن ينقلوه إلى مكان أمين ورأوه يحتضر فسألوه عما يطلبه ويشتهيه قبل أن يطفأ سراج حياته فأوعز لهم أن ينفخوا في الصور نغمة مارش «سيدي إبراهيم» ليسمعها لآخر مرة فأطاع الجنود أمره في الحال، ورفعوا أبواقهم ونفخوا فيها ذلك السلام المشهور ذا النغم الحربي الذي يثير الأشجان وبينما هم يبوقون لفظ ذلك الضابط روحه ومات قرير العين.
أما سلام «سيدي إبراهيم» فنشيد حربي نظمته الموسيقى الفرنسوية تخليدا لحادثة تاريخية جرت سنة 1845 أيام حرب الجزائر وكانت بقيادة الأمير عبد القادر المشهور، فإن العرب قطعوا خط الرجعة على ثلاثة فرق فرنسوية من رماة مونتانياك وأطبق العرب على الفرنسويين، فأمعنوا فيهم طعنا وجرحا حتى قتلوا معظمهم وتمكن الباقون من الجنود الفرنسويين من الفرار والالتجاء إلى جامع في قرية مجاورة تدعى سيدي إبراهيم، فحاصرهم العرب فيها يومين كاملين لم يذق الجنود فيهما طعاما ولا شرابا إلى أن تمكنوا من الخروج من الجامع سرا واختراق مضارب الأعداء وبلوغ ملجأ أمين فنجوا من الموت بعدما تحملوا أهوال مضض الجوع والظمأ. •••
Bog aan la aqoon