سواء علينا يا جميل بن معمر
إذا مت بأساء الحياة ولينها
وما زالت تكرر هذين البيتين حتى ماتت بعد ثلاثة أيام من سماعها بموت جميل.
ما حدثته بثينة عن جميل
حدثت بثينة - وكانت صدوقة اللسان، جميلة الوجه، حسنة البيان، عفيفة - قالت: والله ما أرادني جميل - رحمة الله عليه - بريبة قط، ولا حدثت أنا نفسي بذلك منه، وإن الحي انتخبوا موضعا، وإني لفي هودج لي أسير إذا أنا بهاتف ينشد أبياتا، فلم أتمالك أن رميت بنفسي وأهل الحي ينظرون، فبقيت أطلب المنشد فلم أقف عليه، فناديت: أيها الهاتف بشعر جميل ما وراءك منه، وإني أحسبه قد قضى نحبه ومضى لسبيله، فلم يجبني مجيب، فناديت ثلاثا وفي كل ذلك لا يرد علي أحد شيئا، فقالت صويحباتي: أصابك يا بثينة طائف من الشيطان، فقلت: كلا، لقد سمعت قائلا يقول، قلن: نحن معك ولم نسمع، فرجعت فركبت مطيتي وأنا حيرى والهة العقل كاسفة البال، ثم سرنا، فلما كان في الليل إذا ذلك الهاتف يهتف بذلك الشعر بعينه، فرميت بنفسي وسعيت إلى الصوت، فلما قربت منه انقطع، فقلت: أيها الهاتف، ارحم حيرتي وسكن عبرتي بخبر هذه الأبيات فإن لها شأنا، فلم يرد علي شيئا، فرجعت إلى رحلي فركبت وسرت وأنا ذاهبة العقل، وفي كل ذلك لا يخبرني صويحباتي أنهن سمعن شيئا، فلما كانت الليلة القابلة نزلنا وأخذ الحي مضاجعهم ونامت كل عين فإذا الهاتف يهتف بي ويقول: يا بثينة، أقبلي إلي أنبئك عما تريدين، فأقبلت نحو الصوت فإنه شيخ كان من رجال الحي، فسألته عن اسمه وبيته فقال: دعي هذا وخذي فيما هو أهم عليك، فقلت له: وإن هذا لمما يهمني، قال: اقنعي بما قلت لك، فقلت له: أنت منشد الأبيات؟ قال: نعم، قلت: فما خبر جميل؟ قال: فارقته وقد قضى نحبه وصار إلى حفرته - رحمة الله تعالى عليه - فصرخت صرخة آذيت منها الحي وسقطت على وجهي فأغمي علي، فكأن صوتي لم يسمعه أحد وبقيت سائر ليلتي، ثم أفقت عند طلوع الفجر وأهلي يطلبونني فلا يقفون على موضعي، ورفعت صوتي بالعويل والبكاء ورجعت إلى مكاني، فقال لي أهلي: ما خبرك؟ وما شأنك؟ فقصصت عليهم القصة، فقالوا: رحم الله جميلا، واجتمع نساء الحي وأنشدتهن الأبيات، فأسعدنني بالبكاء، فلم نزل كذلك مدة أيام ثلاث، لم أكتحل بعدها بإثمد ولا فرقت رأسي بمخيط ولا مشط ولا دهنته إلا من صداع خفت على بصري منه، ولا لبست خمارا مصبوغا ولا إزارا، ولا أزال كذلك أبكيه إلى الممات.
قيس بن ذريح العذري ولبنى بنت الحباب
كان قيس بن ذريح العذري ذاهبا لبعض حاجاته فمر ببني كعب وقد احتدم الحر فاستقى الماء من خيمة منهم، فبزت إليه فتاة مديدة القامة، بهية الطلعة، عذبة الكلام، سهلة المنطق، فناولته إداوة ماء، فلما شرب قالت: ألا تبرد الحر عندنا، وقد تمكنت من فؤاده؟ فقال: نعم، فمهدت له فدخل فجاء أبوها فوجده فرحب به غاية الترحاب ونحر له جزورا، فأقام عندهم ضياء اليوم ثم انصرف وهو أشغف الناس بها، فجعل يكتم ذلك إلى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه، ومر بها ثانيا فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها، فوجد عندها أضعاف ذلك، فانصرف، وقد علم كل واحد ما عند الآخر، فمضى إلى أبيه فشكا إليه ذلك، فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك، فغم منه وجاء إلى أمه، فكان منها ما كان من أبيه، فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وأخبره بالقصة، فرثي له والتزم أن يكفيه هذا الشأن، فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب ثم قال: إنه من اللائق أن يكون ذلك من أبيه شأن العرب في هذه الأحوال، فشكره ومضى إلى أبي قيس حافيا على حر الرمل، فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين إلى أبي لبنى فزوج قيسا بها، ولما تزوج بها أقام معها على أحسن مراتب الحب والإقبال ولكن لم تلد له ولدا، فساء ذلك أباه فعرض عليه أن يتخذ غير زوجته وأن ذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله ونسله، فامتنع وقال: لا أسوءها قط، وقام يدافع عنها عدة سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يدخل البيت إلا ولبنى طالق منه، فكان إذا اشتد الحر يستظل بردائه ويصلى بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل فأهلك، ثم خشي قيس أبيه فأذعن لما أشار به، فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وسأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى، فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدا، فسقط مغشيا عليه، فلما أفاق أنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا
حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة
Bog aan la aqoon