ولما استوى على سدته العالية حل القيود التي قيد بها لويس الثامن عشر أرباب الأقلام، وأعاد للأمة برلمانها الذي كان مؤلفا من مجلسين أحدهما انتخابي والثاني إرثي، وأقام حفلة عظيمة للدستور حضرها الشعب الباريسي كله ووافق على ما تم بغالبية 1500000 صوت ضد 4300 صوت.
أما أوروبا فقد اهتزت من أقصائها إلى أقصائها لذاك الحادث الخطير؛ لأن ملوكها كانوا يرون رجوع نابوليون بمثابة رجوع المبادئ التي قررتها الثورة، والتي حاولوا إلغاءها في فرنسا نفسها بعد اعتزال نابوليون في جزيرة ألب، ويعتقدون أن السلم العام سيبقى مضطرب الحبل مع وجود ذاك القسور المغوار.
أما نابوليون فلم يضع وقته بين مظاهر الاحتفاء والاحتفال، بل أخذ ينظم جيشه بهمة شماء، وما ظهر التحالف الأوروبي الجديد حتى كان لديه 160 ألف رجل فسيرهم للقاء جنود المتحالفين ليقاتل فريقا بعد فريق، فيتمكن من قهر كل قسم منهم على حدة، ولقد كانت الدلائل كلها تعزز أمله، فإن جيشه قهر أولا البروسيين في 16 يونيو سنة 1815 عند فلوريس وليني، ثم التفت إلى مقاتلة الإنكليز بعد أن وكل إلى القائد جروشي أن يواصل مطاردة البروسيين، ثم ينضم إليه للإجهاز على الجيش الإنكليزي، ولقد تغلب نابوليون على الإنكليز من جهة الميمنة، وأمر أخاه جيروم بأن يأخذ عنوة غابة هوجومون، فاستولى عليها، ثم أخرج المارشال ناي الإنكليز من سان جان بعد استيلائهم عليها، واخترق الفرسان الفرنسويون المربع الإنكليزي، فخيل إلى الجنرال ولنجتون الإنكليزي أن جناح النصر خفق مع جناح النسر الفرنسوي، وإنهم لعلى تلك الحال إذا بغبار يملأ الفضاء ورصاص يصفر في الهواء فقال الفرنسويون: «جروشي ... جروشي» ثم اتضح لسوء طالعهم أنه بلوخر البروسي، فأخذت الجنود الفرنسوية تقول: «إن جروشي خائن.» وتزعزعت قوتها المعنوية، فعندئذ استل نابوليون سيفه وتقدم إلى صفوف الأعداء وتبعه أخوه جيروم، ولكن قواده أحاطوا به وأجبروه على الذهاب من طريق جيناب.
وفي تلك الساعة؛ أي الساعة الثامنة مساء، وقع الحادث الحربي العظيم وهو دخول الحرس الإمبراطوري قلب المعمعان، فإن أربع أورط منه ألفت مربعا وأخذت تقاوم جيوش الأعداء فكان كل جندي منها يقاتل ثلاثين، حتى فنيت ولم يبق منها إلا واحد مع القائد كامبرون، فأوعز إليه القائد الإنكليزي بأن يسلم فأجاب كامبرون ذاك الجواب التاريخي: «إن الحرس يموت ولا يسلم.» وأكد بعض المؤرخين أن جماعة منهم انتحروا حتى لا يعيشوا بعد هذا الفشل.
أما بقية الحرس الذي كان تحت إمرة المارشال لوبو، فاستمرت تقاتل من جهة أخرى حتى مكنت بقية الجيش الفرنسوي من التقهقر، ومما يذكر هنا أن البروسيين أظهروا فظاعة لطخت شرفهم العسكري بالعار، عندما أسروا بقية أولئك الأبطال، فإنهم أهانوا المارشال لوبو أبلغ إهانة، وذبحوا الجنرال فاندام وجملة من الضباط.
ولقد أجمع النقاد الحربيون على أن الخطة الحربية التي وضعها نابوليون في تلك المعركة المعروفة بمعركة واترلو - لحدوثها عند قرية واترلو - كانت أقوى دليل على سمو فكره وصدق نظره وأصالة رأيه، ولكن سوء الطالع الذي تمثل في خطأ جروشي أجهز عليه وذهب بحظه الأسعد. •••
ولما عاد نابوليون إلى باريس رأى من النواب عداء ونفورا، فقرر أن يتنازل لابنه ولقبه بنابوليون الثاني، ولكن مجلس النواب أبى أن يعترف به، فقرر عندئذ أن يترك فرنسا ويسافر إلى أمريكا، فلم يسمح له المتحالفون بالمرور، ولما سد أمامه كل طريق ذهب إلى البارجة الإنكليزية بياورفون وسلم إلى ربانها، وكتب إلى الوكيل الملكي يخبره بالعدول عن السياسة ويطلب البقاء تحت رعاية القوانين الإنكليزية.
ولكن الحكومة الإنكليزية أبت مع حلفائها إلا نفي نابوليون إلى جزيرة القديسة هيلانة، حيث قضى بقية حياته بعيدا عن ابنه ووحيده، «فرخ النسر» الذي نشرنا حكايته الأليمة في «الهلال».
وفي 15 ديسمبر سنة 1840 دوت المدافع في باريس على مسمع من الملايين المحتشدة، وظهر موكب فخم لم تر العيون أعظم منه هيبة وجلالا، وما وصل هذا الموكب تحت قوس النصر حتى سمعت الملايين بكاء هو أقرب إلى زئير الأسود المتألمة منه إلى النوح والإعوال، أولئك هم بقية الجيش الأعظم يبكون ويستبكون عند رؤية قائدهم وإمبراطورهم راجعا على آلة حدباء إلى عاصمته، حيث يرقد الرقدة الأبدية وبجانبه السيف الذي كان يتقلده في معركة مارنجو.
أسرة بونابارت
Bog aan la aqoon