الفصل السادس عشر
أخلاق نابوليون
اتضح لنا فيما تقدم جانب من أخلاق نابوليون، فرأينا ما كان من حبه لأمه وإخوته، ومن ضعف إرادته وتسامحه وخوفه من الحقيقة أيام حبه لجوزفين، ومن تفانيه في إرضاء ماري لويز لحملها على حبه، كما رأيناه تنزه نفسه عن الضغينة والحقد على أناس من الذين أساءوا إليه قبل صعوده إلى قمة شاهقة من العز والمجد، ونحن ناظرون في الجانب الآخر من تلك الأخلاق.
قال كثيرون من المتحاملين على نابوليون وفي جملتهم الكاتب العالم تين: «إن نابوليون كان خشن الطبع فظ الخلق، لم يذق المقربون إليه شيئا من حلاوة اللسان وطيب المعاشرة»، وقال أليزون في تاريخ أوروبا: «إنه لما أبلغ اللورد ويتورث سفير إنكلترا نابوليون أن حكومته تعد معاهدة أميان باطلة، غضب غضبا شديدا وخرج عن صوابه إلى حد أن رفع يده ليضرب السفير.» ثم تناول الناس هذا الخبر دليلا على شراسة نابوليون، وتلقفه الخلف عن السلف من المؤرخين، وبعد تسعين سنة خطر للمستر أوسكار برونن أن يراجع مستندات الحكومة البريطانية وينظر في قيمة تلك التهمة، فانتهى به البحث والتدقيق إلى تقرير الحقيقة الآتية وهي أن «ما قيل عار عن الصحة ... وأن تلغرافات السفير الإنكليزي نفسه تدل على بطلانه.» فسقط من ذلك الحين كل ما بناه خصوم نابوليون من المطاعن والمثالب على ذاك الخبر الملفق.
أجل إن نابوليون كان مثل الذين كثرت شواغلهم وهمومهم ينفر من الإبطاء المضر والتثاقل المبرم في بعض الأوقات، ولكن بين قلة الجلد في بعض المواقف وشراسة الطبع التي تحول دون كل معاشرة شقة واسعة من الفرق.
وليس هناك ريب في أن شراسة الطبع بالمعنى الصحيح تحول دون الخلق الكريم والوداد المقيم وتنكص بالمرء عن احترام النواميس الاجتماعية، والواقع أن معاملة نابوليون لأمه وإخوته حتى كان يحرم نفسه من الجلوس في القهوة ليتمكن من إعانتهم، ثم احتفاظه بصداقة الذين عرفهم في عهد الصبا مثل بوريين وجونو ومارمون وغيرهم من الذين عينهم في وظائف مختلفة ونهض بهم في مدارج الرقي، كل ذلك يبطل ما زعمه الخصوم.
وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى وزرائه وجدنا مدة أكثرهم أطول من مدة الوزراء الذين استوزرهم أي ملك أو إمبراطور آخر، ولقد دلنا التاريخ على أن معظمهم كانوا من الأكفاء وليسوا من الذين فنيت عزة نفوسهم وألفوا اللطم كما زعم بعض الكتاب.
ولو كان نابوليون متصفا بطبع وحشي كما زعم خصومه، ومشهورا بمثل هذا العيب الفاضح لما رضي إمبراطور النمسا أن يزف إليه ابنته، فإن الغرض السياسي الذي كان يرمي إليه الإمبراطور فرنسوا لم يكن وحده كافيا للتضحية بابنته. وما كان العيب الأكبر الذي رمي به هذا الإمبراطور التجرد من العواطف البشرية والوالدية، بل كان الضعف السياسي الذي جعله آلة بين يدي وزيره مترنيخ، ومهما يكن من أمر ضعفه فهو لا يذهب بالحنان الأبوي، وزد على هذا كله أن الرسائل التي بعثت بها ابنته ماري لويز - وذكرنا بعض فقراتها فيما تقدم - تكفي للدلالة على أنها كانت بين يدي إنسان لا بين مخالب حيوان.
وكان نابوليون يعد الحسنات من الأعمال الخالدة كالانتصارات، بدليل ما قاله عن الملوك وذوي التيجان الذين سموه مغتصبا بعد اعتزاله في جزيرة ألب: «إن هؤلاء الملوك يلقبونني اليوم بالمغتصب بعد أن أرسلوا إلي السفراء الرسميين مع الإجلال والاحترام، وبعد أن وضعوا في سريري ابنة منهم، وبعد أن دعوني أخا لهم، فهم أرادوا أن يبصقوا علي فبصقوا على وجوههم وحقروا «جلالتهم»، ألا ما هي قيمة لقب «إمبراطور»؟ إنه إذا لم يكن لي غير هذا اللقب لدى الذرية لهزأت بي، ولكن لي النظامات التي وضعتها والحسنات التي صنعتها، والمعاهد التي شيدتها، والانتصارات التي أحرزتها، تلك هي ألقاب المجد.»
وإذا رجعنا إلى أقوال المعاصرين له وجدنا براهين دامغة على تحامل خصومه؛ قال شاتوبريان: «غشيني بونابارت بمظهر بسيط ثم أخذ بلا توطئة ولا أسئلة عقيمة يحدثني عن مصر والعرب كأنني صديق حميم، وكأنما حديثنا كان تتمة لحديث سابق.»
Bog aan la aqoon