7
أعترف أنني في الأسابيع القليلة الماضية أربكني كل شيء، عرس سعيد وسفره، رحلتي إلى المتحف مع شادي، وتقرب سليمان المفاجئ والسريع مني، واستمرار انقطاع الكهرباء والماء، وكأن المصائب لا تشتفي من آلامنا أبدا، وكلما ظننا أن البلاء الذي نحن فيه هو أسوأ شيء يمكن أن يحصل، نجد أنفسنا في بلاء جديد نفتح له أفواهنا دهشة ولسان حالنا يتساءل: هل يمكن أن يحدث هذا؟ لكن الحرب لا تكتفي، والموت كذلك؛ فحلب نفسها قد انقسمت إلى شرقية وغربية بحاجز في حي بستان القصر، وكل شخص من الأحياء الشرقية عليه أن يحصل على إذن لدخول الأحياء الغربية، والعكس صحيح. هذا مع نشاط القناصين من الطرفين الذين يتسلون بقنص طفل متعلق بصدر أمه، أو شيخ يحمل خبزا لعياله. وهذا ما أدى إلى انقطاع الكثير من المواد الغذائية عن المناطق الغربية من حلب مع غلاء الأسعار الفاحش.
لقد ازدادت مشاغلنا كثيرا؛ فمثلا تضاعف الوقت الذي نقضيه في غسيل الصحون إلى ضعفين أو ثلاثة بسبب تراكم الصحون أياما، وبسبب اضطرارنا إلى صب الماء من الأوعية التي كنا نخزن فيها الماء وقت توفره، وهذا أمر ليس بسهولة استخدام الماء من الحنفيات، وينطبق الأمر كذلك على غسيل الملابس، وسقي أحواض الزرع، وشطف الشرفات، وتنظيف البيت، الماء حياة، لم نكن ندرك قيمة ذلك حتى فقدناه. هذا بالطبع ما عدا الأخبار السيئة التي كنا نسمعها كل يوم من موت عزيز، أو خراب بيت، أو اختفاء شخص، أو سرقة بيت؛ فقد نشطت العصابات وكثر النشالون ، وتطورت أسالبيهم وعلا سقف مطالبهم في بيئة الحرب الملعونة؛ ولذلك فقد قاطعت رؤية الأخبار نهائيا، لكن ماذا أفعل إذا كانت الأخبار السيئة تدخل بيوتنا عنوة وتقتحم حياتنا فتكدرها غصبا؟ البارحة تحديدا علمت بخبر وفاة رضيعين توءمين لجارتنا غادة التي رزقها الله بهما بعد سبع سنوات من العلاج، لكنهما ماتا البارحة بسبب انقطاع الكهرباء في المستشفى! وقبلها صديق والدي مريض السكري الذي توفي إثر احتياجه لإبرة أنسولين لم يتمكن من إيجادها، يا للظلم والقهر! ولا أحد يجد حلا سوى أن ترمي بنفسك وبعائلتك وأطفالك في البحر لتقامر بحياتك وحياتهم من أجل عيشة تليق بإنسانيتك!
أمام هذه الضغوطات وجدت أني بحاجة إلى فسحة للتفكير، إلى وقت أستقطعه لنفسي. لا أنكر أن الغرور أخذ يلعب برأسي وأن قلبي ممتلئ فرحا بالمشاعر التي تتوارى في كلمات شادي ونظراته الحانية يوم لقائنا في المتحف، وبتصرفات سليمان الملك الجريئة آخر مرة التقيته فيها عند جدو نور، ورسائله الواضحة التي يكتبها في منشوراته على «الفيسبوك» بعباراته الأنيقة وكلماته الشعرية. لكنني اليوم أدركت أنني لا أعرف بالضبط ماذا أريد، وأن ما أقوم به لا يعدو أن يكون لعبة خطرة لا أعرف عاقبتها؛ ولذلك فقد قررت الابتعاد قليلا، وبما أن «الفيسبوك» هو المنفذ الوحيد لاتصالي بهما فقد قمت بتسجيل خروجي وإخفاء جهازي الكمبيوتر في خزانتي، حتى لا يقع تحت عيني وتراودني نفسي لفتحه، كما أني لم أعد أذهب إلى جدو نور مطلقا.
لقد مر على ذلك ثلاثة أسابيع، كم مرة شعرت بالحنين، برغبة شديدة بمعرفة ما يكتب سليمان، كم مرة شعرت بتأنيب الضمير تجاه شادي، والطريقة التي عاملته بها، كم تساءلت عن الأمر المهم الذي كان ينوي أن يخبرني إياه! هل يريد الارتباط بي مثلا؟ أعلم أنه يهتم بي، أرى ذلك في كلماته، في لهفته بالإسراع إلى الحديث معي، في بريق عينيه يوم التقينا، لكنني مع ذلك لا أعرف إن كنت أحبه حقا أم أحب تعلقه بي، ولا أدري إن كنت حقا مستعدة للارتباط به. يا للضياع الذي يحيط بي كدوامات من الرياح العاتية لا أنجو من إحداها حتى تخطفني الأخرى !
انتظرت أسابيع ثم حاولت التواصل مع شادي فلم أفلح، لقد قالها لي مرة: «أنا حازم.» يومها ضحكنا، لم أكن أعلم أنه بهذه الحدة، أحيانا يراودني شعور أنه على حق، وأنني السبب في ذلك، وأحيانا أمقت تعلقي به، وأضع اللوم كله عليه؛ فهو لا يعرف كيف يتعامل مع قلب الأنثى، إن عليه أن يناضل، أن ينتظر دهرا إذا اقتضى الأمر، ثم أعود لأفكر: وهل كل الناس مثل جدو نور؟ أحاول أن أقف مكانه، وأتلقى ما تلقاه مني، لقد آلمته حقا، هل يعاقبني، أو يهرب مني؟ لست أدري.
مضت الأيام والأسابيع والشهور وحسابه مغلق على «الفيسبوك»، وهو بالطبع لا يرى رسائلي. لقد كانت رسائله كلها مخزنة في صفحتي بعد عودتي إليها، كان يرسل كل يوم رسالة أو اثنتين، كتب لي في آخر رسالة: «خسارة، ظننت أني وجدت شريكة حياتي.» لقد كان ينوي الارتباط بي! لم أدر بعدها ماذا حدث معه. ذهبت إلى المتحف أسأل عنه، لكن لم يعرف أحد مكانه، أحدهم قال لي إنه سافر، لكنه لم يقدم استقالته، ثم أغلق المتحف بعدها نهائيا بسبب الحرب، وامتلأت البوابة المزينة بالتماثيل الحجرية بسواتر رملية، وغرق المتحف في الظلام، ثم إنني لم أعد أستطيع الذهاب هناك مجددا؛ فالمنطقة كلها صارت خطرة.
في مساء أحد الأيام تحلقنا حول العشاء نشاهد التلفاز من كهرباء «الأمبير»، ظهر فاصل إعلاني عن إقامة حفلة في دمشق يحييها الفنان «السوبر ستار» رائد! يا للمفاجأة! إنه هنا في سورية وفي دمشق تحديدا؟ هذا ما كان ينقصني. شعرت بغصة في صدري وبصعوبة كبيرة تمكنت من بلع اللقمة، وقمت إلى غرفتي. لا أدري بعدها ماذا أصابني، اجتاحتني رغبة ملحة بالبكاء، لم أقاومها كثيرا، خرجت إلى الشرفة وبكيت حتى لا أثير استغراب أهلي، ماذا بي؟ هل هو الشوق للأيام الماضية؟ أيام الهناء قبل الحرب حين كان بيتنا عامرا بنادر وسعيد وجدتي وكلنا معا لا نعرف سوى المرح وهموم الدراسة البسيطة؟ أم هو فيض ذكريات لمشاعر حملتها يوما لذلك الشاب الذي كنت قد تناسيته تماما ؟ أم هو القهر لما آل إليه حاله وما آلت إليه حالنا؟ لست أدري.
8
توضأ أبو سعيد وصلى العصر، وبعد التسليمة الثانية تأمل قليلا، ثم صلى مجددا، لم يعرف ماذا عليه أن ينوي لهذه الصلاة، لكنه صلى وهذا هو المهم. جلس دقائق يستغفر ويسبح على غير عادته ثم ارتدى ثيابه وخرج. لم يخبر أحدا أين ينوي الذهاب؛ فلم يكن يريد أن يشغل بال أحد عليه، فيلحوا عليه بالاتصال كل دقيقة، الأمر الذي يزعجه كثيرا، ثم إنهم لو عرفوا فلن يتركوه يذهب بسلام.
Bog aan la aqoon