كان معطفه «الباردسون» يضفي على قامته الطويلة ومنكبيه العريضين جاذبية خاصة، بالإضافة بالطبع إلى سنوات عمره التي ترشحه لأن يكون أستاذا جامعيا، وليس طالبا على مقاعد الدراسة؛ فقد التحق بالكلية نفسها التي كان يدرس فيها قبل أن تغيبه ظلمات الاعتقال أربعة عشر عاما. وكأن ذلك لم يكن كافيا لجذب الطلاب إليه، وخاصة الصبايا اللاتي سحرتهن الخصلات الفضية أكثر من صرعات الشباب وتسريحاتهم الغريبة؛ فقد أضاف إلى هيئته مسحة من الرزانة والرسمية أكسبتاه شيئا من المظهر الودود والغامض في الوقت نفسه. ومنذ يومه الأول، اكتسب صداقات عديدة من باب المساعدة، أو من دافع الفضول لا أكثر، ولكن أصدقاءه وجدوا مشكلة فيما عليهم أن ينادوه به؛ فكلمة «عمو» التي يطلقونها عادة على غيره ممن هم في مثل عمره لا تليق بزميل لهم في الدراسة، كما أن نطق اسمه بلا ألقاب ينقص من قدره ويقلل من ذوقهم، مع أنه ألح عليهم ألا بأس في ذلك لكنهم لم يجدوها لائقة. وأخيرا مازحه أحدهم قائلا: «ما رأيك ب «حجي»؟» ضحك زملاؤه، أما هو فقد أعجبته الكلمة وقال: «لم لا؟ فأل حسن.» ومن يومها التصق به اللقب «حاج سليمان».
وبعد سنوات من التجاور على مقاعد الدراسة اكتسب شعبية أكبر، وصار أكثر انفتاحا مع زملائه، فارتاحوا له وغدا بمثابة الحكيم الذي يلجأ إليه الشبان خصوصا؛ فقد كسب مودتهم بعد أن كان منافسا قويا لهم في الاستحواذ على إعجاب الحسناوات وقلوبهن.
كان مستندا في ذلك اليوم على أحد المقاعد الحجرية في ساحة الكلية متخذا من أوراق الأشجار العملاقة ملاذا له من شمس آب الحارقة. ارتشف رشفة من علبة الكولا الباردة ووضعها بجانبه، وأعاد قراءة الصفحات التي بيده؛ فبعد ساعة سيدخل الامتحان التكميلي للمادة التي رسب فيها. كان يراقب من بعيد ذلك الشاب الأشقر وقد مضى عليه أكثر من ساعة وهو ينتقل من شباك إلى شباك في نزق ظاهر. إنه يعرفه جيدا فهو طالب يتقدمه بعام دراسي، ساعده هو وأصدقاؤه مرات عديدة في شرح شيء، أو وهبوه كتبهم وملخصاتهم التي انتهوا منها. إنه شديد الانفعال، «كل الشباب كذلك» حدث نفسه مبتسما، أو لعله يحب أن «يطالع شقاره»
1
بين الحين والآخر.
أكمل حاج سليمان قراءة ما بيده وعينه على الشاب، بعد دقائق، جلس الشاب على أقرب مقعد واضعا رأسه بين يديه. هز حاج سليمان كتفيه وأكمل دراسته فلم يتبق سوى نصف ساعة على موعد الامتحان.
وصحيح أن الحاج سليمان لم يجده حين خرج، لكنهما تحدثا على الهاتف مساء، ومن يومها تقاربا أكثر، وصارا يلتقيان صباحا في الكلية، أو مساء في بيته مع صديقيه الآخرين يتسامرون ويأكلون ويتحدثون عن همومهم. كان الحاج سليمان حريصا في اختيار زملاء الدراسة ممن يسمح لهم بدخول بيته في حي الأعظمية؛ فهو لا يريد تطفلا من أي نوع على حياته الخاصة، وخاصة فيما يتعلق بذكرياته الأليمة. وصحيح أنهم في مثل عمر أولاده، إلا أنه انسجم معهم وبادلهم الود والثقة ومشاق الدراسة، وهم بدورهم عوضوه شيئا من حنان الأبوة الذي لم يذقه يوما؛ فقد عملت سنوات الاعتقال الطويلة على تشويه مشاعره، وسلبته كثيرا من الحنين. ولما لم يجد من ينتظره من أهله بعد خروجه، فلم يعد يعبأ بالعلاقات الإنسانية الحميمة التي يتقارب فيها الناس بقلوبهم. وهكذا نأى بنفسه عنهم، وأبعدهم عنه، معتبرا أي تقرب من أحدهم إما تجسسا عليه، أو تطفلا أخرق في أحسن الأحوال، وللسبب نفسه لم يتورط بارتباط مع أي امرأة بخطبة أو زواج. كما أنه ظل متخوفا من أي انفتاح إنساني إلا مع أصدقائه القدامى الذين لم يبق منهم سوى واحد أو اثنين، أو مع زملاء الدراسة الجدد الذين ظل يقنع نفسه أنهم حالما يتخرج سيخرجون من حياته كما دخلوها. لكنه مع كل اجتماع بهم في بيته يجد نفسه يتعلق بضحكاتهم، بدعاباتهم الخفيفة منها والسمجة، يستغرب من لهفتهم واندفاعهم إلى الحياة، ويجد نفسه كلما غادروه في وحدة قاتلة ما كان يشعر بها من قبل. لقد تمكن هؤلاء الشباب من أن يبثوا روح الحياة فيه، أعادوا إلى قلبه جذوة الحنين، هذه القوة الرحيمة التي تسم القلب الإنساني بسمتها العذبة، لكنها تمزجه بألم الفقد والشعور بالاحتياج إلى الآخر، وهذا ما كان يزعجه ويؤرقه.
الحنين إلى أي شيء؟ ما كان يعرف تحديدا، أحيانا كان يلعن الجامعة والشباب وكل من عرفه، ثم لا يسلو عن همه إلا بالقراءة أو تصفح «الفيسبوك» والكتابة على صفحته التي أنشأها له أحد زملائه الشباب؛ ف «هذا زمن الفيس» كما ألحوا عليه. وفي مدة قصيرة وجد نفسه منخرطا فيه بشكل أكبر، خاصة أنه أعاد اتصاله بمن بقي له من أقاربه الذين يقطنون خارج البلد. كما أنه جعل من هذا الفضاء الأزرق مستوعبا لا ينتهي ولا يتململ لكل ما كان يجول في خاطره من أبيات شعرية، أو نتف نثرية، يستعيد بذلك أيام صباه الأدبية، ويسكب فيها ما حنكه الزمان به من دراية وحكمة.
كان جالسا إلى مكتبه ذلك المساء كعادته يتصفح الفيسبوك، لكنه كان يمرر إلى الأسفل في شرود واضح ولا يقرأ منشورا، ثم خطرت تلك الفتاة على باله. إنها ماثلة أمامه الآن حين رآها عند صديقه، صبية جميلة متوسطة الطول، بوجه مستدير كقرص القمر يحيط به إشارب من الساتان السماوي وترتدي معطفا كحليا طويلا. كان في عينيها السوداوين سر جاذب، مزيج من العناد والخفر، من الحيوية والكبرياء. مرر المؤشر إلى خانة البحث، كتب متذكرا كلمات صديقه جيدا، وتلك الحمرة الخفيفة التي اصطبغت بها خداها: «سماء صايغ»، وعلى الفور ظهرت له صفحتها. تأكد من أنها هي، ثم أخذ يقرأ منشوراتها، قرأ بعناية فائقة، كلمة كلمة. ظل يقرأ ويمرر إلى الأسفل والساعة تدور تك تك تك، وهو يقرأ والزمن يمضي، ووجهه يتلون بما يقرأ، يرفع حاجبيه إعجابا، يبتسم مرحا، يقطب جبينه مستفهما، حتى انتبه على صوت تسميع مسجد الحي . عندها فقط نظر إلى الساعة وهاله مرور الزمن بهذه السرعة، لكنه عاد إلى الفيسبوك يقرأ، وأذن الفجر، وأقيمت الصلاة، وهو يقرأ، حتى انتهى إلى آخر منشور كتبته، وهو أول منشور لها في الفيسبوك منذ أنشأت صفحتها عام 2009م: «مرحبا، أنا جديدة في الفيسبوك، شكرا لكل من قبل صداقتي، من أهلي وأقاربي وصديقاتي، وأرحب دائما بصداقات جديدة، أنا سما صايغ » ومن غير تردد ضغط على زر طلب الصداقة. أغلق جهازه، واندس تحت لحافه جالبا معه ولأول مرة شعورا بالرضى المعطر بالحنين.
8
Bog aan la aqoon