6
كان الهاتف يضيء في يدها بصمت، لقد استمر بالرنين منذ ابتعادها عنه حتى هذه اللحظة في غرفتها، وكذلك كانت كلماته تومض في مخيلتها بصوته الحنون: «نهرب ونتزوج.» استدارت نحو المرآة، أسدلت شعرها الأسود على كتفيها، أخذت تسرحه ببطء، مررت يدها على وجنتيها وذقنها ثم على رقبتها وكتفها العارية، تأملت الكدمات التي صارت زرقاء وبنفسجية، ضغطت برفق عليها فشعرت بالألم. عادت لتتأمل وجهها، وجنتان غائرتان، وذقن رفيع، وعينان عسليتان ذابلتان، ما الذي جعله يحبني؟ هل يحبني؟ أيراني جميلة؟ ابتسمت، وعادت لتسرح شعرها. توقفت برهة وأخذت نفسا عميقا تحاول أن تجمع بقايا رائحته التي علقت على وجهها الذي حرصت على ألا تغسله. وضعت يدها على فمها تماما كما فعل، أغمضت عينيها، وراحت تتذكر تفاصيل تلك اللمسة. كانت كفه قوية وحانية في الوقت نفسه، ورائحة مميزة تسللت إلى أنفاسها، رائحة لم تعرفها من قبل، هي مزيج من عطر وبهارات وورد، نعم كانت رائحة الورد، وخاصة حين اقترب منها وحرارة أنفاسه تلفح روحها العارية.
أزاحت يدها عن فمها، لا تزال كتفها تؤلمها، لكن ألما آخر كان ينخر في قلبها، كانت ذكرى ذلك اليوم لا تغيب عن بالها، لكمات أخيها، لعابه المتطاير من سبابه ولعناته: «يا فلتانة، يا فاجرة، وضعت راسنا في التراب، حتى لو كان أبوك ميتا فأنا موجود أربيك.» أمها التي وقفت تبكي وتولول، ثم انقلابها عليها، نظرات الاتهام من الجميع ... الهاتف يومض مجددا، حملته بعصبية ورمته بعيدا.
جلست على الأرض تنتحب، من أنا؟ أنا نكرة، أنا لا شيء، لا أستحق شيئا، أنا جبانة، عاصية، مسكينة، كل هذا بسببي، كل اللوم يقع علي، وهل لمثلي أن تحب وأن تحب؟ أستغفر الله العظيم، يا رب سامحني. هدها الألم والبكاء حتى نامت مكانها.
كانت لا تزال على الأرض حين استيقظت فجأة، التيار الكهربائي مقطوع، تلمست طريقها وفتحت درج مكتبها حيث تضع ضوء الشاحن، أشعلته ونظرت إلى الساعة، الثالثة إلا ربعا، جلست على السرير ورأسها بين يديها، تشعر بالصداع. أطفأت الشاحن، وتمددت على السرير، بقيت وقتا حتى كادت تستسلم للنوم مجددا حين رأت ضوءا خافتا يومض وينطفئ، هل استيقظ أحد؟ عادت وأغلقت عينيها، ثم قعدت فجأة وقد تذكرت شيئا، نظرت تحت السرير، كان الهاتف يرن، إنه هو! أمسكته بيدها المرتعشة، اتجهت إلى خزانتها واختبأت فيها، شعرت بانقباض في معدتها، وبأن قلبها ينبض في حنجرتها، سمعت نبض عروقها، لهاثها المتسارع، أحست بحبات من العرق البارد تنسل من رقبتها وتسيل على ظهرها، كان الخوف يأكلها، وكذلك شعور لذيذ بالإثارة.
وبعد تردد ضغطت على زر الإجابة، قربت الهاتف من أذنها: «سلمى، سلمى، هل هذه أنت؟» لم تجب، كان الخوف يشل صوتها، شعرت أن أي همسة تصدرها ستصل إلى جميع أهل البيت، «سلمى، أرجوك، أتوسل إليك، لم أنم كل الليل، أنا قلق عليك، سلمى، لا أريد أن أوذيك، قولي أي شيء لأعلم أنك بخير.» ارتجفت شفتاها وقالت همسا: «نعم، أنا معك.» ومن مكانها سمعته جيدا وهو يضحك ويبكي معا ثم قال: «الحمد لله، الحمد لله، لو تعلمين كم هلعت عليك، لم لم تجيبي؟ لا بأس، لا عليك، الآن لا تجيبي على أي رقم سوى هذا الرقم، كيف حالك؟ هل علموا بأي شيء؟ هل آذاك أحد؟» - لا سعيد لا، لكن ... هل نقوم بالصواب؟ أقصد أليس ذنبا ما نفعله؟ هذا حرام، هل تفهمني؟ - سلمى سلمى لا تفكري بهذه الطريقة أرجوك. - كيف علي أن أفكر إذن؟ بأي صفة تحدثني؟ - سلمى افهميني، أنا أريدك زوجة لي، امنحيني فرصة فقط، الله وحده يعلم كيف كانت أيامي من دونك. سلمى يا سلمى، لا أعرف كثيرا أن أصوغ الكلمات، لكني تعلقت بك، أنت لا تفارقين تفكيري، أنت معي في كل نفس من أنفاس حياتي. - ... - ما بك لا تجيبين؟ - خائفة. - كلنا خائفون، لكن الهرب ليس حلا، وأنا معك وسأقف إلى جانبك دائما. - علي أن أغلق الآن، إلى اللقاء.
7 «شادي؟» وهبط قلبي في الدهشة، تقافزت إلى ذهني رسائل الإنترنت ولوحات الخط، ولم أقل شيئا. وبعد دهر، أو هكذا شعرت، سمعت صوت نادر يناديني: «سما، سما.» ثم ألقى التحية على الرجلين وقال: «أتمنى ألا تكون أختي قد أشغلتكما عن أمر مهم؛ فهي متحمسة دائما.» عندها نطق شادي: «لا، على الإطلاق، كانت الآنسة تتحدث عن الخط بكثير من الشغف، وكنت سعيدا لأسئلتها ورؤيتها الناقدة.» قلت مبتسمة لسرعة بديهته: «بالفعل سيد شادي، أود أن أعرف سر اختيارك للونين السماوي والذهبي في أغلب لوحاتك؟» قال: «هذا أمر يطول شرحه، لم لا ترافقانني إلى الجلسة الصحفية التي ستعقد غدا حول المعرض في التوقيت نفسه؟» قال أخي: «يسرنا ذلك.» وسحبني من يدي وودع السيد شادي وخرجنا.
كان في جعبتي الكثير ذلك المساء، سارعت إلى تفقد بريدي الإلكتروني لكنني ما وجدت شيئا. كانت الدهشة لا تزال تسيطر على كياني؛ فلم ألحظ تسمر العائلة كلها أمام شاشة التلفاز إلا حينما سمعت صراخ أمي. أسرعت نحو الغرفة مستفسرة، فأومأ لي أبي بالتزام الصمت، كانت الأخبار تبث مشاهد من تجمعات للناس، ثم صوت إطلاق النار، وبعض الجرحى المطروحين على الأرض، مشاهد أخرى لحي وقد تحول إلى دمار. وقفت غاضبة وقلت: «ماما أتصدقين أن هذه المشاهد في سورية؟ مستحيل، ماما، هذه مصورة في دول أخرى ويقولون إنها في سورية، لا لا مستحيل.» نظرت إلى أبي منتظرة تأييده لكنه ظل ساكتا وقد أطفأ التلفاز، سكوته أفزعني، وأوقع في قلبي الشك. كان نادر هو من تكلم فقال: «طيب طيب، ابقي أنت نائمة في كتبك وأوهامك أحسن لك.» وغادر الغرفة.
سكوت أبي ودموع أمي وكلمات نادر رافقتني طوال تلك الليلة فلم أنعم بنوم جيد، بالإضافة إلى الأحلام المزعجة. ويوما بعد يوم أخذت الأخبار تكثر، ونار الحرب تحرق مدنا أكثر، أصابتني حيرة شديدة، لم أكن متثبتة من أي شيء. ما كان مؤكدا حقا هو أحاديث الناس التي يتهامسون بها، ونظرات الذهول التي تطفو على الوجوه، وحالة الترقب الحذر الذي سكن الجميع.
كنت كلما حاولت أن أسأل أبي تجاهل أسئلتي ولاذ بالصمت، وماما لم تعد تشاهد الأخبار معنا أبدا. أما نادر فكان يخيفني؛ فهو يحدثني بأمور تدخل الرعب في قلبي لكنه بالتأكيد كان يبالغ كثيرا. هكذا نادر دائما، لم أعد أود أن أسأله عن شيء، كما أنه أصبح سريع الغضب ولا يجلس معنا إلا قليلا، أين أنت يا سعيد؟ كم أشعر بحاجتي إليك، إلى أن تكون هنا بجانبي أحدثك وجها لوجه، من غير أن تغير الموضوع كلما حاولت التحدث معك على الهاتف أو في «الفيسبوك».
Bog aan la aqoon