عدت لأنظر مجددا إلى التلفاز، لأتأكد أن ما رأيته حقيقي. إنه هو بلا شك، الشاب الوسيم ذو الجبهة العريضة «رائد»!
4
كان يوما ربيعيا بامتياز، الجو نيساني صحو بعد أمسية ماطرة، وقد قاربت أيام المعهد على الانتهاء. كان عليه أن يبادر بشيء ما، أن يضع نهاية أو بداية للعذابات الحلوة التي عالجها قلبه طوال العام الماضي، واليوم عقد عزمه على الحديث إليها. كانت جالسة كعادتها كل يوم أربعاء بين المحاضرتين في حديقة الجامعة تحت شجرة الكينا الكبيرة. نسمات الربيع شهية، وعبق الأرض الندية بسخاء السماء منعش وعليل، ساعة واحدة تجلسها كل يوم أربعاء وحيدة مع كتاب أو عصير أو مع أحلام فتية تلاحقها مع الغادي والرائح منتظرة شيئا أو قدرا أو أملا.
اقترب سعيد حتى صار على بعد خطوات منها، تظاهرت بالنظر إلى الطرف الآخر، كان على يقين أنها تعلم بوجوده، كانت تعبث بقطعة شوكولا بين يديها. التقط زهرة بيضاء وعاد إلى الوراء واختبأ خلف الشجرة محتميا بها ومستعيدا للمرة الأخيرة كلماته التي أعادها مرارا وتكرارا. استنشق الجرأة من عبير الزهرة وانطلق بخطوات واسعة وسريعة وثابتة وجلس بجوارها، التفتت وابتسمت، وعلى الفور احتواه عبير زهر البرتقال، فملأ منه ما استطاعت رئتاه إلى ذلك سبيلا، وسرى تيار نوراني لطيف، كان يعرف طريقه تماما في جداول قلبيهما، وكأنما كان هناك منذ ملايين السنين. تحدثا طويلا والساعة صارت ساعات، ثم افترقا على وعد قلبي بمستقبل جميل.
بعد أسابيع بدأت الامتحانات النهائية، واستمر سعيد ينتظرها يوم الأربعاء من كل أسبوع، ولكنها لم تظهر، وظل مقعد الأربعاء خاليا، وشجرة الكينا تظلل خيباته المكتومة، كيف اختفت؟ أي ظلم؟ وأي قهر؟ طوال عام ونصف ظل بعيدا عنها، يكتفي بمتعة المراقبة، وحين وضعا قدميهما على أول عتبات السعادة دار الدهر دوراته المعهودة واختطفها! كان حياؤه يمنعه من السؤال عنها؛ فهو لا يحب كثرة الأقاويل، ولا يريد أن يجلب لها أي أذى.
لا أحد يعلم سواه كيف أمضى أيامه ولياليه، كيف أنهى امتحاناته، كيف حمل الليل إليه ذكرى لقائهما الوحيد ورائحة زهر البرتقال تطرق باب ذاكرته فتملؤه بالوجع والحنين وغصة السؤال.
وبعد شهرين وفي صباح أحد الأيام اتجه سعيد خارجا من محل والده في «سوق الزرب»، إلى «سوق النسوان» لاستلام بعض الوثائق التجارية من أحد أصدقاء والده. كان يسير كعادته بخطى سريعة على أرض السوق الحجرية، حتى لمح عن بعد ملامحها، راح يحث الخطى، وحين تحقق من أنها هي، أخذ يلاحقها وكانت تسير مع شاب طويل. تجاوز جمهور الناس هناك بصعوبة، وظل مركزا عليها حتى لا تضيع عنه في الزحام، ثم انعطف يسارا وهو يركض ودخل في إحدى العبارات
1
المسقوفة التي يعرفها شبرا شبرا، ثم انعطف يمينا، ويمينا مرة أخرى، وقفز هذه المرة قفزا، حتى التقى بها أمامه مباشرة تسير متأخرة عن الشاب بخطوتين، وبرشاقة كبيرة قبض على معصمها وسحبها إلى الداخل، إلى مدخل أحد المحال المقفلة. كانت المفاجأة قد شلت دفاعاتها كلها فلم تقاوم، أوقفها أخيرا، كانا يلهثان، تأملها مليا، يا الله! كم اشتقت إليك! كانت تتلفت يمنة ويسرة في فزع وتصيح: «يا مجنون يا مجنون، سيقتلك أخي.» فأغلق فمها براحة يده وقال: «هشششش، اهدئي، اهدئي، أخوك لن يجدنا هنا، لحظات وأعيدك إليه، أريدك أن تسمعيني فقط، اسمعيني.» واقترب منها قيد قبلة، حتى اختلطت أنفاسهما اللاهثة، فأصابها شيء من الدوار فاستسلمت متهاوية بين ذراعيه.
أجلسها على الدرجات الحجرية، وسألها: «لماذا اختفيت؟ إذا شئت الآن أحدث أخاك لأخطبك.» تطلعت إليه بذعر وقالت: «لا، لا، أنت لا تعرف شيئا.» «أخبريني إذن.» صاح بعصبية، قالت: «لقد رأونا ذلك اليوم في الجامعة نتحدث، وعلمت أمي وإخوتي، كلهم عادوني، حاربوني وا وا ...» هزها من كتفها: «وماذا؟» دفعته بعيدا عنها وهمت بالوقوف وقالت بانفعال كبير: «أنت لا تعرف شيئا، لقد ضربوني، هل تسمع؟ ضربوني كل يوم وحبسوني، انظر.» وأخذت تفكك أزرار قميصها وهي تبكي فبانت رقبتها وشيء من كتفها. ضاقت عينا سعيد وهو يرى آثار الكدمات المزرقة على جلدها، تمتم: «من؟ قولي لي من؟» ومد يده ليلامس آلامها، فأبعدته عنها وقالت: «علي أن أذهب.» واستدارت وهي تزرر قميصها، فأمسك بيدها وأخرج جهازه الخلوي وقال: «انتظري، خذي هذا، سأكلمك.» ودسه في جيب معطفها، وأسرعت الخطى ساحبة يدها من يده. صرخ سعيد وهي تبتعد عنه: «تعالي نهرب معا ونتزوج.» توقفت برهة، لم تلتفت، ثم اختفت وسط الزحام.
Bog aan la aqoon