الألم ينخر كل زاوية في، في جسدي وروحي وعقلي، أشعر أن الكون ينهار على رأسي وأنني في عتمة تامة، إنه ألم محض يكويني، لكنه للأسف لا يزهق روحي. أكرهك لأنني أحبك ، أكره حبي لك، وددت لو أن لي القدرة على إلغاء ذاكرتي، لو حصل هذا لكان من أكبر النعم علي في هذه اللحظة!
أواه أواه! كيف يبلى القلب ممن يهواه؟!
أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني، يا قلعة حلب، يا جامعها الكبير، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءا من آلامي، خذوني إليكم، ضموني بحنانكم، عانقوني فأنا متعبة. ما لي أجد الكلمات تنثال على الورقة بلا توقف؟ وكأنما يتوالد الشعر حين يحتضر الحب وتكثر خيباته؟ وداعا، أقولها لك لأن الشوق يأكلني؛ وداعا حفاظا على روحي، علني ألقاك يوما، لست أدري، سأترك الأقدار تفعل ما تشاء.
حلب، 13 آب، 1994م
أعدت قراءة الكلمات بروح جديدة بعد أن فهمت تفاصيل القصة، بعد أن تعرفت ولو قليلا إلى ذلك القلب الذي عانى وتألم وبكى كثيرا. بقيت صامتة أتأمل الكلمات حتى نبهني جدو وقال: «وهكذا فعلت أنا، مثلك تماما، بقيت أتأمل الرسالة غير مصدق، أحاول أن أفهم ماذا جرى ولماذا. بدأت تنثال علي الذكريات وتغمرني، وأخذت كل التفاصيل التي عشناها معا في ألمانيا وبعد زواجنا تتقافز إلى ذهني سريعا، ماذا حدث لنا؟ أين ذلك الحب النقي والمشاعر الجميلة؟ كيف تبدلت السعادة إلى نزق وبؤس؟ بقيت تحت وطأة الذكريات حتى اختلطت بالأحلام ولم أعد إلى رشدي إلا صباح اليوم التالي. استيقظت وكأنني ولدت من جديد، كانت رسالتها بمثابة الصفعة القوية التي أعادت تشكيل حياتي. قمت وأخذت حماما دافئا، وشعرت لأول مرة كيف أن الماء يطهر الروح كما الجسد، تركت الماء يغسل بنقائه عكر الأيام، وما خلفه الحقد في روحي وقلبي من أسقام. لست أدري كم بقيت تحت الماء، لكنني بعدها خرجت بأمل جديد، سأستعيد رندة. أول شيء فعلته أنني ابتعت عقدا فضيا بحجر سماوي اللون، وهو الحجر الذي تفضله رندة وطالما أخبرتني عنه القصص والأساطير.»
وسكت قليلا وقد قفزت صورة العقد إلى ذهني «آه نعم، إنه هو ذلك الذي في درج مكتبه الثاني هناك.» لم أنطق بحرف، شعرت بكثير من الإثارة فأنا أعرفه جيدا، خفضت نظري خشية أن يكتشف ذلك في عيني. ثم قال: «قررت أن أهديه لها حينما تعود لأنها ذكرت في رسالتها أنها ستعود يوما، وأخذت أنتظرها كل صباح عند مفترق الطرق المؤدية إلى بيتنا. كل صباح كنت أتأنق وأجلب معي العقد السماوي لأزين به رقبتها الجميلة وتعود هي لتزين حياتي من جديد، لكنها لم تأت. بقيت شهرا كاملا أنتظرها كل صباح، بعدها بدأ الخوف من اليأس يتسلل إلي، فأخذت أنتظرها في الثالث عشر من كل شهر، حتى مضت سنة كاملة، لكنها لم تظهر. كان الخوف من فقدها مجددا يفقدني صوابي، إنها تركتني مرة وعادت، فهل يعقل ألا تعود هذه المرة؟ لقد عانينا كثيرا، وآلمتها أكثر، لعلها قررت تركي إلى الأبد!
بعد سنة أخرى أخذت أنتظرها في الثالث عشر من آب كل عام أمام بيتنا القديم. كانت مشاعر الندم والألم والخوف تسيطر علي، ومع ذلك بقيت متشبثا بأمل عودتها، وهذا الأمل منحني قوة كبيرة لأكون أفضل في كل أمور حياتي، فقدمت على مسابقة للهيئة التدريسية في جامعة حلب وتم قبولي، تحسنت أموري كثيرا بعدها.» وسكت وطيف من خيال يسرح به بعيدا، وماذا بعد؟ ماذا حل بها؟ لا أعتقد أنها عادت؛ فلا يزال الحزن جاثما عليه. طال سكوته واستحيت أن أستحثه على متابعة الحديث، فالتزمت الصبر دقائق حتى تنهد عميقا وعدل من جلسته وقال: «وحده الأمل برؤيتها مجددا هو ما كان يمنحني القوة لمتابعة الحياة. نصحني الكثير برفع دعوى طلاق، وبالزواج مجددا، ولا أخفيك يا سماء سرا فقد كنت أفكر في ذلك مرارا، وحين كنت أهم بفعله يراودني السؤال ذاته: ماذا إن فعلت ذلك ثم عادت؟ حينها سأفقدها إلى الأبد.» ثم نظر مباشرة في عيني وقال: «ألا تعتقدين ذلك؟ ما رأيك؟» تفاجأت لحظة من سؤاله، ثم قلت: «معك حق، لكن هذا يعتمد على الشخص نفسه.» قال: «ماذا تقصدين؟» أجبته: «لو فكر أحد ما في ذلك لأشار عليك بالانتظار عاما على أبعد تقدير؛ فلو أرادت رندة العودة لعادت خلال هذا العام، لكن ... لكن يا جدو هذا يعتمد عليك وعلى ما تؤمن به، أقصد أي الطريقين ستختار؟ انتظار عودتها، أم نسيانها وإكمال حياتك من غيرها حتى لو عادت، لكن هذا الكلام لم يعد مجديا الآن، فقد قمت باختيارك وانتهى الأمر.» أطرق قليلا وتمتم: «صحيح، صحيح.»
ثم سألته: «وماذا بعد؟ هل انتهى كل شيء؟ ماذا حدث لها؟» التفت إلي وضحك بسخرية وقال: «ماذا بعد؟ لا شيء، لم تعد، وها قد انقضى على رحيلها ثمانية أعوام وأنا لا أتوقف عن الذهاب مرة كل عام في ذكرى رحيلها، الثالث عشر من آب، لأنتظرها في المكان نفسه عند مفترق الطرق المؤدية إلى بيتنا القديم.» قفزت إلى ذهني ذكريات ذلك اليوم فجأة، إنه ذلك اليوم الذي خرج فيه مسرعا وتركنا أنا وأختي وحدنا، اليوم الذي اكتشفت فيه القلادة ذات الحجر السماوي، الآن فهمت كل شيء، يا إلهي! إنه لم يفقد الأمل أبدا حتى بعد مرور كل هذا الوقت! كنت في حالة من الذهول فلم أنطق بكلمة، ثمانية أعوام! إنها فترة طويلة جدا. وبشكل غريب انتقلت شرارة الأمل منه إلي، أحسست بدفق كبير من الحماسة، بأنني سأسعى إلى استعادتها، وسأنجح في ذلك. عدنا إلى البيت وشيء واحد بدأ يشغل تفكيري، كيف سأفعل ذلك؟
في صباح اليوم التالي وجدت رسالة على بريدي الإلكتروني من شادي يعلن فيه عن معرض لفن الخط العربي في صالة مديرية الثقافة، معرض للخط العربي! لم يسبق لي حضور شيء مماثل، لكنه يبدو جميلا، إنه بعد يومين وعلي أن أحضره؛ فهو تجربة جديدة بالنسبة إلي.
في المساء كنا مع عائلتي نتناول طعام العشاء أمام التلفاز، أخذ نادر يقلب قنواته حتى توقف عند إحدى المحطات، وصدح صوت الغناء. رفعت رأسي لأرى، وكان أن غصت اللقمة في حلقي، أخذت أسعل محاولة أخذ نفسي، وهرع الجميع لجلب الماء أو لضربي على ظهري ضربات آلمتني أكثر من أن تساعدني. ولأن الله شاء لي أن أستمر في الحياة فقد تمكنت أخيرا من ابتلاع اللقمة وأخذ نفس عميق. كانت الدموع تطفر من عيني والجميع يحملق في، الحمد لله، قال والدي: «كلي على مهل، لقد أفزعتينا.»
Bog aan la aqoon