في لحظة المصيبة نكون مغمورين بالألم بحيث يعمينا عن رؤية الفرص الجديدة المفتوحة أمامنا.
كل شيء مهما بلغت قوته يضعف أمام سطوة الزمن.
3
بعد أسبوع تقريبا ذهبت إلى جدو نور لأعيد له الكتاب. دخلنا إلى مكتبته وبقيت أتأمل انعكاس ضوء النهار على الأرض الخشبية اللامعة، عندها قال جدو: «اجلسي فلا يجب أن تظلي واقفة.» ثم سألته: «والآن، هل نكمل؟ أتحرق شوقا لمعرفة ما حدث؛ فأنا لا أتوقف عن التفكير.» ابتسم بحزن وقال: «وإلى أين وصلنا يا سماء؟» أجبته: «بعد انتقالكما إلى هنا والمشاكل التي حدثت لكما.» قال: «نعم، لم يحدث الكثير بعدها، بقينا على حالنا من هم إلى هم؛ فقد كنت إذا انتهيت من تأمين إيجار الغرفة، انتقلت إلى هم تأمين لقمة العيش، ثم إلى هم الدواء والعلاج الذي أخذته رندة فقد كانت تمرض كثيرا خاصة في الشتاء مع التدفئة الشحيحة التي بالكاد كنا نحظى بها. لا أجد وصفا لتلك الفترة إلا بالمعاناة الكاملة، ولا أتذكر من نفسي إلا حدة مزاجي واستعدادي للمشاكل على أبسط سبب ، وخاصة فيما يتعلق برغبة رندة في الإنجاب؛ فقد تشاجرنا بسبب ذلك مرات عديدة، كانت متمسكة برغبتها، وأنا لم أكن أريد ذلك إطلاقا، كنت بالكاد أعيل نفسي وزوجي، فمن البلاهة أن أزيد عبئا آخر علي.
أما رندة فكانت تلقي بكل شيء وراء ظهرها وتتجه إلى الجامع الكبير كل يوم تقريبا، لا أدري كيف تذهب ومتى، لكنني كنت أعلم أنها كانت تذهب هناك؛ الأمر الذي أثار غضبي مرارا، لكنني لم أعد أسألها. كنت أشعر بالغيرة الكبيرة، كيف لها أن تنحي جميع مشاكلنا جانبا وتنصرف إلى حياتها، لم لا تشاركني همومي وتتحمل معي أعباء الحياة؟ هذا ما كنت أشعر به، لكنني ما كنت مهتما حقا ماذا تفعل؟ وكيف تقضي نهارها.»
وسكت وأخذ رشفة من فنجان قهوته، ثم قال: «بقينا هكذا قرابة الأربع سنوات، تمكنا بعدها من الانتقال إلى شقة صغيرة في حي بستان القصر. تحسنت أحوالنا قليلا، لكن روحي لم تتحسن، بقيت كما أنا، خاصة أن أهلي استمروا في مقاطعتي، على الرغم من محاولاتي الكثيرة لإرضائهم، ثم حدث ما كنت أخشاه، توفي والدي فجأة!»
كتمت شهقتي وبقيت ساكتة، يا للمصيبة! أردف قائلا وهو يضرب على صدره بقبضة يده: «هل لك أن تتخيلي شعوري تلك الأيام؟ حرمني أبي من نفسه وقرر أن يعاقبني مدى الحياة. لقد كان الخبر بمثابة الصاعقة على رأسي؛ فقد حملني الجميع مسئولية موته، وخاصة أعمامي الذين انقلبوا علي، حتى إن أحدهم قام ليضربني حين أتيت إلى العزاء.» تأثرت كثيرا بكلامه وكأنني أراه وأشعر بحزنه وغضبه حتى إنني جاهدت نفسي كي لا أبكي أمامه.
ثم قال: «كان موت والدي محورا فاصلا في حياتي، أصبحت أكثر عدوانية، صرت أمضي الليل بطوله في إحدى الحانات، أدمنت الشرب، وقطعت عهدا على نفسي أن أقطع صلتي تماما بكل أفراد عائلتي. في تلك الأيام التي أسميها أيام الحضيض، لم أكن أجد من أصب جام غضبي عليه سوى رندة، وكانت تتحملني كثيرا وتغضب أحيانا. كنت في سري أحملها مسئولية كل ما حدث معي، لكن ما ذنبها تلك المسكينة لتهان في بلد غريب عنها؟ واستمر الحال حتى مضت سبع سنوات أخرى، تجاوزت ألمي وغضبي من والدي، لكنني تحولت إلى شخص آخر، لم أعد أبالي بشيء، وفقد كل شيء قيمته بالنسبة إلي، كرهت الناس وانعدمت ثقتي فيهم. أما رندة فبعد أن تحملت تقلبات مزاجي كثيرا انصرفت تماما إلى حياتها، التحقت بالجامعة، شاركت في ندوات ثقافية، تطوعت في بعض الجمعيات الخيرية، ويوما بعد يوم ازدادت علاقتنا سوءا، فقلما كنت أراها أو أتحدث إليها.
وفي أحد الأيام عدت إلى البيت فلم أجدها، في البداية لم أكترث، ظننت أنها ستعود قريبا، لكن مضى اليوم ولم تعد أو تتصل كعادتها إذا تأخرت، غضبت منها، كيف تترك البيت من غير إذني؟ أخذت أبحث عنها وأسأل صديقاتها اللاتي أعرفهن لكن بلا جدوى، أقسمت أني سأعاقبها حين تعود، لكن مضت الأيام والأسابيع ولم تعد. بدأت أقلق عليها، هل حدث لها مكروه؟ سألت المشافي ومراكز الشرطة لكن ما من جواب. وفي أحد الأيام كنت جالسا إلى مكتبي فانتبهت إلى وجود رواية البؤساء، تلك الرواية التي أهدتني إياها أيام الجامعة في ألمانيا، حملتها بيدي وكأنني أراها للمرة الأولى وقد أعادت إلي الذكريات الجميلة، وأجهشت بالبكاء وأخذت أقلب صفحاتها أحاول أن ألتقط شيئا من بقايا عطرها، فوجدت ورقة فتحتها وإذا بها رسالة الوداع تلك التي قرأتها أنت يا سماء.» وناولني الورقة:
أكتب إليك كتابي هذا، والدمع يمنع عني الرؤية، فأجد صعوبة في تمييز الأحرف والكلمات. أعرف تماما ما أود قوله لك، في جعبتي الكثير، وفي قلبي ألم كبير، سأختصر لأقول: اشتقت إليك، وشوقي يقلتني. لو كنت بعيدا عني لهان ذلك، لكنك بجانبي، تنظر إلي، تسمعني، تلمسني، وأظل أشتاقك وأنا أقرب ما أكون إليك، ليس شوقا عاديا، إنه شوق ممزوج بيأس، وحب ممزوج بكره، لست أدري كيف اتفق هذا؟
Bog aan la aqoon