التقى بها في أسبوعه الأول في المعهد التجاري، ووحده من بين الجميع تعلق قلبه بها، لم تكن فائقة الجمال، أو شديدة الأناقة، كانت نحيلة ببشرة بيضاء وعينين داكنتين. كانت ترتدي غطاء رأس قطنيا من قطعتين، ومعطفا أسود يصل إلى الركبتين مع بنطال من الجينز الفاتح وحذاء رياضي صيفا، وجزمة جلدية عالية الساقين شتاء. لم يكن مظهرها ليلفت انتباه أحد خاصة في وجود حسناوات الجامعة الكثيرات، لكنه وحده كان هناك مستسلما لقدر نسج لهما معا خيوطا تتشابك وتتعقد وتتباعد لتلتقي أخيرا هنا، في هذه اللحظة بالذات، وفي هذا المكان بالتحديد.
التقط عذوبتها وحده من بين الجميع، واحتفظ بإعجابه بها، كانت رقيقة صادقة بسيطة حزينة، وهذا كل ما كان يرغب فيه، أن يسبر أغوار هاتين العينين الحزينتين ، ويكتشف سر روحها. وببراعته المعتادة تمكن من كتم مشاعره عن أصحابه وأهله، ظل عاما ونصف العام يراقبها عن بعد وعن قرب، والأيام تمضي وحبها في قلبه ينمو برفق، وهو يداريه كبذرة صغيرة لن تنبت إلا بصبر وطول نفس وكثير عناية؛ فالحبيبة مثل الوردة، مغلقة على سر روحها بأوراقها اللطيفة الرقيقة، فإذا أحبها قلب سكب من ماء عاطفته على جذورها فترتوي، وأشرق من نور ذاته على أوراقها فتشرع بالتفتح، إلا أنها تحتاج صبرا ودراية وطول عناية، فإن استعجلت كشف سرها، وحاولت فتح أوراقها، ذبلت وماتت وغاب سرها إلى الأبد، ولن يبقى منها إلا خيال كان يوما ما. وإن لامستها بحبك، وغمرتها بعنايتك شرعت تتفتح على يديك ورقة ورقة، وتبدى لك منها في كل يوم جمال خاص، وفتنة مختلفة، وزادك انشراح كل ورقة منها لوعة وشغفا للغوص أكثر في أعماقها واقتناص سرها، لكن ذلك لا يتأتى لك إلا بعد أن تذيب حشاشة قلبك في قلبها باللطف الذي هو سر الحب الإنساني الرفيع، حتى إذا ما استتمت أوراقها، وأكملت تفتحها، واستوت على عروشها، حارت ملكاتك الذهنية والنفسية والروحية في استيعاب ما يرشح عنها من حسن هيئتها، وروعة عبيرها، وكمال جمالها، فتذهل فيها، وتعشقها، وتشقى بها، وتشتاق إليها، وكذا شأن المحبين؛ ذهول وعشق وشقاء واشتياق.
لم يكن يتحدث إليها، كان يكتفي بالجلوس قريبا منها في المحاضرات من غير كلام، ويظل يختلس النظر إلى يديها الصغيرتين وحبة خال تزين طرف يدها اليمنى، ورائحة زهر البرتقال الخفيفة تتهادى إليه كلما حركت يديها لتعدل حجابها، أو لتخرج شيئا من حقيبتها الجينز الكبيرة. كم كان يطيب له أن يراقب يديها، ويعجب من هذا التناغم في أطوال أصابعها، وانسجام حركاتها وهي تحتضن القلم بأظافرها الزهرية المقلمة بعناية، والتي لم يرها يوما مصطبغة بأي لون سوى سحر لونها الطبيعي الخالص، ثلاثة أصابع تحتضن القلم، واثنتان ترقدان أسفله في وداعة وسكون، والخال يتيه مختالا بهذا الجمال الأخاذ.
كانت سارحة مرة في شيء ما، شيء ما حرك أصابعها على الورقة البيضاء فخربشت خطوطا ودوائر، أتراها ترسم قدريهما مفترقين وملتقيين؟ وفي زاوية الورقة الأقرب إليه رسمت قلبا صغيرا ممتلئا، أتراها لاحظته؟ هل التقطت إيقاعات قلبه؟ لكن عينيها سارحتان ساهمتان، وقلمها استقر عند القلب ساكنا. وهكذا كانت تنتهي كل محاضرة؛ عيناه تتأملان يديها الصغيرتين، وقلبها المرسوم في زاوية الورقة، ولا تزال الكلمات حائرة لا تجد لها طريقا إليهما؛ فقد احتفظ بصمته وبلذة القرب والمراقبة، واكتفت هي بخربشات على الورق.
عام ونصف العام، درس خلاله تفاصيل حياتها اليومية، مواعيد حضورها وانصرافها، كيف تمشي، وكيف تضحك، وماذا تحب أن تأكل؛ عصير التفاح أو البرتقال مع فطيرة محضرة في البيت. حفظ كم معطفا وبنطالا وحذاء لديها، تعرف على حقيبتيها الجينز الكبيرة والبيضاء الجلدية، راقب صديقتها الوحيدة التي تشبهها كثيرا، اختزل حركاتها وملامح وجهها وابتساماتها القليلة النادرة، وإذا حدث والتقت نظراتهما، كان يهرب سريعا إلى الساحة الخارجية وقلبه يطرق انفعالا، ويظل يسأل نفسه كل مرة: ماذا أصابني؟ لم هذا الذهول والخوف؟ كيف يمكن أن أكون ضعيفا إلى هذا الحد؟ ما تلك المشاعر التي تضطرب لها نفسي وتشقى بها روحي، وفي الوقت نفسه أجد فيها لذة عجيبة وطعما حلوا في قلبي لا طاقة لي في دفعها، ولا مهرب لي منها؟ النفور والجذب، اللذة والألم، كيف اتفق أن اجتمعت في قلبي؟ أكون عاشقا؟
8
في مساء اليوم التالي كنت في حاجة إلى رؤية جدو نور كثيرا، خاصة أنه قد مضت ثلاثة أسابيع على غيابي عنه، فجهزت نفسي وأختي، وهممت بالخروج. شاهدتني أمي فقالت: «يعني نسيت كيف غضب أبوك منك في آخر مرة ومنعك من الذهاب؟» أجبتها: «أرجوك أمي، لن أتأخر مجددا، أعدك بذلك، كما أن كتابه لا يزال معي، ولا نريد أن يقال عنا إننا لا نعيد الأمانة، لن يحب أبي ذلك أبدا.» امتعضت والدتي وأشارت إلي بيدها لأذهب ثم قالت: «لكن عليك أن تعودي قبل عودة والدك، لا أريد أية مشاكل، أسمعت؟» وعدتها بذلك وخرجت.
فتح لي الباب جدو نور، وجدت عنده في المكتبة «إنجي» تلك الفتاة التي رأيتها من قبل، وكانا وحدهما! شعرت باستياء وعدائية تجاهها، كانت جميلة كما رأيتها أول مرة، أنيقة في ثيابها، لطيفة في ابتسامتها، لكنني اليوم لم أعد معجبة بها، ماذا تفعل وحدها مع جدو نور؟ يا لوقاحتها! قال قاطعا الصمت: «تفضلا بالدخول، لماذا تقفين هكذا يا سماء؟ لقد قابلت إنجي من قبل، صحيح؟» أومأت بالإيجاب، وابتسمت لي، أخرجت الديوان من حقيبتي وأعدته إليه، فقال: «لقد تأخرت كثيرا، بدأت أقلق عليك، أين كنت طوال هذه المدة؟» أجبته وأنا أشعر بعدم الارتياح من وجود إنجي معنا وسماعها لكل ما يقال: «لا تكترث، ظروف البيت لم تسمح لي بالمجيء، أعتذر عن تأخري في إعادة الكتاب.» قال على الفور: «لا تقولي هذا، ما كنت مهتما به بقدر اهتمامي بغيابك، والآن أخبريني كيف وجدت الديوان؟» أجبته: «أعجبني كثيرا، شعرت أنه في معظمه ينطق بلساني، يعبر عن أمور كنت أعجز عن التعبير عنها، وزاد من عجبي أنه غير مسلم وغير عربي أيضا، ومع ذلك فإن شعره أعجبني كثيرا.» وبعد أن قلت ذلك شعرت بحرج شديد، قد تكون إنجي غير مسلمة، قد تعتبر كلامي إهانة لها، قلت بارتباك: «أعتذر، لم أقصد أن أنتقص من قيمة أحد غير مسلم أو أي شيء، لم أكن أعني أنني ...» قاطعني جدو نور ضاحكا: «ومن قال إن أحدا ما شعر بالإهانة؟ لم يفهمك أحد بخلاف ما تقصدين، أنت تعنين أنه على الرغم من اختلاف المعتقد الديني والثقافي واللغوي فإنه نال إعجابك، وهكذا يكون الإنسان العظيم يا سماء، مهما اختلف عنا فإنه يتمكن دوما من ملامسة روحنا لأننا نشترك معا في الإنسانية يا عزيزتي، أليس كذلك؟» كانت إنجي تبتسم، وكذلك فعلت وقد زال عني الحرج.
بعد قليل رحلت إنجي، فسررت لرحيلها، ولم يكن يشغل تفكيري سوى معرفة ما حدث مع جدو نور ومع رندة، ولما هممت بسؤاله قال: «هل أتيت لإعادة الكتاب أم لتسمعي بقية القصة؟» ابتسمت وبقيت صامتة، فقال: «أتعلمين أنك أنت وشخص آخر الوحيدان اللذان تعرفان القصة هذه؟ الشخص الآخر هو صديق طفولتي وجاري في حارتنا القديمة الذي التقيته العام الماضي، ولا مانع عندي على الإطلاق من أن أطلعك عليها؛ فالموت لم يعد بعيدا عني كثيرا، فإذا مت أحب أن يبقى أحد ليذكرني وإياها بخير.» فكرت: أليس لديه أبناء إذن؟ لكنني لم أشأ أن أسأله فقلت: «بعد عمر طويل إن شاء الله.» ضحك وقال: «شكرا لك، لكن العمر الطويل بالنسبة إلي سنوات معدودة على أبعد تقدير.» ثم قال: «على أية حال، إلى أين وصلنا؟» قلت على الفور: «حين رحلت رندة ولم تقل لي أين.» قال: «نعم، لقد عادت مع أهلها إلى تونس، وهناك لم تتمكن من التواصل معي بسبب مشاكل عائلية واصطدامها مع أهلها الذين قرروا الاستقرار في تونس. وهكذا غابت عاما كاملا، لم أستطع خلالها منع نفسي من البحث عنها، من رؤية خيالها في كل حسناء عربية، صرت أتخيل كل شال أزرق سماوي هو شالها، وكل حقيبة بنية حقيبتها، كنت أفتش في عيني كل أنثى عنها. في أثناء ذلك أنهيت دراستي، ونلت شهادتي؛ فقد عاهدت نفسي أن أكمل طريقي حتى أصل إلى هدفي. لعلها لم تكن حب حياتي، لعلها كانت مقدرة لغيري، لعل أنثى غيرها تنتظرني في مكان ما. وهكذا طويت صفحتها، ونويت أن أعود إلى الوطن لأبدأ حياة جديدة حتى عادت.»
وسكت، وطال صمته وهو سارح في الكتب أمامه، حتى فقدت صبري فسألته: «ثم ماذا؟ ماذا قالت لك؟» أجاب: «بررت لي غيابها، واعتذرت مني وكان أن سامحتها.» صرخت وقد ثرت غضبا: «كيف؟ هكذا؟ بهذه البساطة؟» ابتسم وقال: «نعم بهذه البساطة.» كان يتحدث ببرود شديد أثارني وأغضبني فقلت: «كيف ذلك؟ وهل سامحتها؟ أقصد هل صدقتها؟» ضحك وقال: «ماذا ستقولين إذن إذا أخبرتك أنني فوق ذلك عرضت عليها الزواج؟» وظل ينظر إلي مبتمسا ينتظر ما سأفعل، فوقفت من هول الصدمة وضربت رأسي وقلت: «يا إلهي! هذا جنون! لا بد أنك تمزح، أرجوك أخبرني أنك غير جاد.» أجاب وهو لا يزال مبتسما: «اجلسي، اجلسي، يوما ما ستفهمين، الغضب لا يفعل أي شيء أمام الحب، أتعلمين؟ كانت رؤيتها مجددا بمثابة الحلم الذي لا أريد أن أستفيق منه؛ لذلك قررت إبقاءها إلى جانبي مدى الحياة، فعرضت عليها الزواج فوافقت على الفور، كنا أسعد اثنين، وعدنا إلى ما كنا عليه.
Bog aan la aqoon