ثار الدم في عروقي ونقمت عليه، وقمت على الفور، والتفت خارجة من المكتبة، فأخذ يناديني: «انتظري، أنا أمازحك تعالي.» التفت إليه فوجدته واقفا فقال: «ألا تريدين أن تسأليني لماذا لا أريد أن أساعدك؟» لم أنطق بشيء ولم أتحرك خطوة، فقال: «هيا تعالي، أعرفه تماما، تعالي.» هدأت لجوابه قليلا، فعدت إليه، ووقفت أمامه ملتزمة الصمت فقال: «رائد، إنه في الحقيقة ابن صديقي!»
وا خجلي! أيعقل أن تقودني الأقدار في البحث عنه لأقف وجها لوجه أمام صديق والده؟! حاولت أن أقول شيئا لكن ما من شيء يقال، فابتلعت ارتباكي وبقيت صامتة، فقال: «إنني لا أريد أن أساعدك لأنني أرى أنه لا يستحق أدنى اهتمام منك.» وسكت قليلا وقطب جبينه وما عاد ينظر إلي، وأكمل: «شاب فاسد، ماذا أحكي لك عنه؟ مع أنني عاملته كولد من أولادي ، لا تريدين أن تعرفي ، أنت تستحقين الأفضل.» فكرت في نفسي: أنا من يقرر ذلك وليس أنت، لكنني آثرت الصمت وقلت: «هل لي أن أعرف أين هو الآن؟» قال: «ذهب إلى بيروت، يريد أن يصبح مغنيا، سيشارك في مسابقات الغناء السخيفة.» ثم نظر إلي ينتظر ردة فعلي، عندها شكرته وقلت: «على الأقل هو يعرف ماذا يريد.» وتركت المكتبة وخرجت.
وهكذا انتهت قصة مطاردتي الفاشلة لشاب أعجبني يوما، ولم يكن بيننا سوى بضع كلمات وبعض نقود والكثير من الكتب، كلمات ونقود وكتب، أكانت كافية لتجعلني أتعلق بوهم؟ بشاب ما كنت لأجرؤ على التحدث إليه أو النظر في عينيه؟ ولماذا رحت أبحث عنه؟ ماذا يشكل بالنسبة إلي؟ وهل حقا أحبه؟ أم أنني أحب أن أعيش الحب؟ على أية حال فقد عرفت أن القصة انتهت.
كان الوقت ظهرا، وقد أتعبني المشي وشعرت بالجوع، فخطرت ببالي فكرة مجنونة، لم أفكر بها كثيرا؛ فالأفكار الجميلة تموت حين نحللها ونعيد التفكير فيها، نظرت في محفظتي فوجدت أن المال الذي معي يكفي لتنفيذها. ركبت الحافلة العائدة وتوجهت فورا إلى مطعم وردة الشهباء الشهير ب «شهبا روز». دخلت واخترت طاولة ذات إطلالة على السماء، فبادر أحد العاملين يسألني: «طاولة لشخصين؟ أم أكثر؟» أجبته مبتسمة: «لا، أنا وحدي.» وجلست.
شعرت بشعور غريب؛ فهذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها وحدي في مطعم، ليس جميلا أن أتناول الطعام وحدي وخاصة في مطعم؛ فالطعام ليس لسد الجوع فحسب، إنه طقس اجتماعي وأجمل شيء فيه المشاركة، وكل ما يصاحبه من أحاديث وذكريات وضحكات لا يقل أهمية ومتعة عن الطعام نفسه. أخذت أرقب الجالسين وأنتظر أن يفاجئني القدر بالحب هنا، كما في الروايات، أجلس وحدي، أستمتع بطعامي، وبالموسيقى الكلاسيكية التي تلف الأجواء، وإذا بشاب وسيم يقترب مني ويستأذن بالجلوس، ويكون بيننا حديث جميل ومن ثم قصة حب! سلمت نفسي تماما هذه المرة، سأقوم بدور المشاهد، وسأدع الأقدار تأخذ مجراها لتقرر عني المشهد التالي.
اقترب مني النادل بقائمة الطعام، تصفحتها وطلبت فورا أحد الأطباق، لم أفكر كثيرا كعادتي، وبقيت أنتظر، وأراقب الناس حولي. كان في الصالة عائلة من أبوين وثلاثة أطفال يتناولون طعامهم بكثير من الصخب فأصغرهم يرفض تناول أي شيء، وهناك رجلان بلباس رسمي يأكلان، بوجهين جامدين وصمت مطبق. وفي الزاوية الأبعد والأظلم كان هناك شاب وفتاة يتناولان المثلجات، يظهر من نظراتهما وحركاتهما أنهما حبيبان، يا للسعادة التي ترشح عن وجهيهما! ومن مكاني استطعت رؤية يده تتسلل تحت غطاء الطاولة لتلامس ركبتها، شعرت بالنفور ولم أعد أنظر إليهما.
في الطاولة المجاورة لي كانت هناك مجموعة من الفتيات اللاتي خرجن من الجامعة، عرفت ذلك من الكتب والملازم التي يحملنها، كم أحسدهن! تمنيت أن أقترب منهن وأتعرف إليهن، لكن لا، إذا فعلت ذلك فسأفوت علي فرصة اللقاء بالشاب المنتظر.
حضر الطعام وأخذت أتناوله ببطء وأراقب مدخل الصالة عله يأتي في أية لحظة، ثم بدأت تتبدل الموسيقى الكلاسيكية إلى بعض الأغاني العربية القديمة، وتحديدا لعبد الحليم، هذا هو الوقت المثالي تماما لظهور الحب. ولم يطل انتظاري كثيرا؛ فقد حضر سريعا مستجيبا لنداء القدر، عرفته على الفور! دخل وتلفت يمينا وشمالا، مشى مباشرة إلى الجهة التي أجلس فيها، واستكمالا لدهشتي فقد اختار الطاولة التي تواجهني تماما. كان رجلا في الثلاثين من عمره، ببشرة فاتحة وشعر أسود خفيف، وكان يرتدي قميصا أبيض وسروالا داكنا، وحذاء عسليا من الشامواه. كان أنيقا ببساطة تليق بقوامه الجميل، يحمل حقيبة سوداء جلدية وضعها على الطاولة وأخرج منها حاسوبا محمولا فتحه على الفور وأخذ يعمل، بقيت أنظر إليه وهو بقي ينظر إلى شاشته، طلب قهوة ثم عصيرا. كنت قد أنهيت طعامي فطلبت كوبا من الشاي، وأخرجت بعض الأوراق وتظاهرت بالكتابة وأنا أختلس النظر إليه، كان بمفرده، وكنت بمفردي، ما ضر لو جلسنا معا؟
وطال انتظاري، وأنهيت كوبي لكن لم تبد منه أية بادرة، ومرة أخرى شعرت بتفاهة ما أفعل. عزمت أخيرا على طلب الحساب والمغادرة على الفور، خاصة أنني تأخرت كثيرا، وها هي رحلتي تنتهي بفشل مركب. حضر النادل، دفعت الحساب وقمت أمشي باتجاه الباب، ولما وصلت بمحاذاته قمت بالحركة الوحيدة المتبقية لي، أوقعت حقيبتي عليه! جفل أولا فقد كان منهمكا في العمل على حاسوبه، سارعت بالاعتذار وقلت وأنا أرفعها: «أنا آسفة حقا، أتمنى ألا أكون قد آذيتك.» قال: «على الإطلاق، تفضلي.» ناولني الحقيبة، فأخذتها وشكرته فعاد إلى حاسوبه، وانصرفت أنا إلى خيبتي. ضحكت من نفسي في سري؛ فما يحدث في الروايات والقصص لا يحدث بالضرورة في الحياة الحقيقية. وحين وصلت إلى الباب أوقفني أحد العاملين قائلا: «يا آنسة، أحد الحضور يشير إليك.» التفت فوجدته واقفا يلوح لي بيده، كاد قلبي يقع، وشعرت بألم في معدتي من هول المفاجأة. عدت أدراجي مسرعة، أخيرا؟ هل يعقل أن ما ببالي سيحدث الآن؟ لكن الوقت تأخر، لكن ربما لا، علي ألا أتعجل كثيرا.
وصلت إليه فوجدته ممسكا بمحفظتي فقال مبتسما: «محفظتك، لقد أوقعتها.» أخذتها وابتسمت وقلت: «أشكرك، أنت حقا رجل أمين.» فقال: «لا، هذا واجبي تجاهك؛ فأنت جارتي.» «جارتك؟ أين؟» سألته على الفور باستغراب، فابتسم وأجاب: «نعم، جارتي المؤطرة بهذا الزمان وهذا المكان، ألم نأكل معا؟ صحيح أنك في طاولة، وأنا في أخرى، لكننا متجاوران، فحقك علي هو حق الجيرة، صحيح؟» ضحكت لكلماته وأعجبتني فقلت: «صحيح، أشكرك مرة أخرى أيها الجار الطيب.» ثم لم أدر ما أقول بعدها فمشيت خطوة إلى الوراء، وقلت: «إلى اللقاء إذن، علي أن أرحل.» فقال: «كما قلت: إلى اللقاء، نعم، وليس وداعا.» قطبت جبيني وبقيت واقفة فلم أفهم تماما، وظل هو مبتسما، فخرجت من المطعم وأنا في حيرة وفرح.
Bog aan la aqoon