* بسم الله الرحمن الرحيم
* المقدمة
سبحانك اللهم وبحمدك حمدا يوافي نعمك ويكافئ مزيدك ، وتبارك اسمك يا ذا الجلال والإكرام ، وتعالى جدك ، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، أنت المستعان ، وعليك البلاغ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأشهد أن محمدا عبدك وخاتم أنبيائك ورسلك صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بعثته بالرسالة الخالدة للناس كافة ، رحمة للعالمين ، سيدا للخلق أجمعين ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه الغر الميامين ، ومن اصطفيت من عبادك الصالحين ، ومن سار على نهجهم القويم إلى يوم الدين.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه ، اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ، اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار. أما بعد :
فإن من حكمته تعالى في خلقه أن جعل الناس ينتشرون في الأرض أمما وشعوبا وقبائل مختلفي الألوان والألسنة والمساكن والطبائع والمواهب والطاقات.
وجعل لكل أمة خصائص في أفرادها وفي بلادها تختلف عن الأخرى ، منسكا وشرعة ومنهاجا ، ومزايا وخصائص وسجايا.
وطلب إلى الجميع أن يستبقوا الخيرات ، ويتفكروا في خلق السموات والأرض ، ويعبدوا الله تعالى حق عبادته ، لا فضل لأحد منهم على غيره إلا بالتقوى.
( يا أيها الناس ، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) [الحجرات 49 / 13].
Bogga 5
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) [الروم 30 / 22].
وفتح بينهم مجال السعي والتنافس ، فمن الأمم من أفلحت وفازت بنعيمي الدنيا والآخرة ، وصنعت الحضارة ، وسبقت إليه ، وتمتعت بها ، وحمت مكتسباتها في الحياة بكل ما تملكه من قوة وعلم ، فتفتح البلاد ، وتحكم بما أنزل الله ، فتنشر العدل والسلام ، وتصون الأرض والإنسان.
ومنها من فازت بنعيم الدنيا فحسب فأسهمت في بناء أمجادها فيها ، وتدمير غيرها بما تملك من أسباب العلم والقوة ، ووسائل الإرهاب والإيذاء ، أو انغمست بعد ذلك في ملذاتها وملاهيها وشهواتها ، فنسيت ربها وأنفسها وما خلقت له ، فسلط الله عليها من هو أقوى منها وأعتى ، لا يرحمها ، يستبد بها ، فيستعبد إنسانها ويستغل أراضيها مدعيا تحضيرها تحت شعارات وأسماء شتى ، يخدع بها الناس كالوصاية والانتداب والحماية والدفاع المشترك والاستعمار ، فتخسر بذلك الدنيا والآخرة معا ، بدليل قوله تعالى :
( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون ) [الحشر 59 / 19].
ومنها من تخلفت عن أسباب الدنيا أو نامت ، وادعت العمل للآخرة وحدها ونسيان الدنيا ، فلم تظفر منهما بشيء ، واستغل أعداؤها نومها ، فاعتدوا عليها وانتهكوا حرماتها بانحرافها عن سنن الحياة التي أوصانا بها الله تعالى إذ يقول :
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) [القصص 28 / 77].
والحياة لا تستقر على حال ، فقد ينام الصاحي ، ويصحو النائم ، ويضعف القوي ، ويقوى الضعيف أو يموت.
ويلجأ مفكرو الأمم في حال ضعفها خاصة إلى بعثها من جديد ، وتقويتها بتوحيدها ، وبث روح النهضة بين أبناء أمتهم ، مذكرين بخصائصها التي منحها الله تعالى إياها ، مفتخرين بماضيها ، إن كان لها ماض مجيد ، أو يدعونه ، ليربطوا الحاضر بالماضي
Bogga 6
ويبنوا المستقبل المنشود لها ، فما أقبح من يهدم الماضي مدعيا أن ما عنده من الحاضر يكفيه لحياة لا انفصال فيها بين ماض وحاضر ومستقبل.
وهذا ما صنعه الإمام المحدث المؤرخ وجيه الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الديبع الشيباني الشافعي في كتابه (نشر المحاسن اليمانية في خصائص اليمن ونسب القحطانية)، فقد عاش في القرنين التاسع والعاشر للهجرة ، وبلاد العرب والإسلام تعيش في عصر مضطرب يمتلئ بالأحداث الجسام ، وتتصارع فيه الأفكار والأقوام.
فما العصر؟ ومن المؤلف؟ وما الكتاب؟
* عصر المؤلف ابن الديبع ومجمل الأحداث فيه (1)
امتدت حياة المؤلف حوالي (79) عاما هجريا من عام (866 944 م) (1461 1537 م)، فشهد عصرا مضطربا تزاحمت فيه الأحداث العالمية ، سياسيها وعسكريها ومدنيها واجتماعيها ، على بلاد العرب والإسلام عامة ، وعلى بلاد اليمن خاصة ، وعلى الأسر الحاكمة في اليمن على الوجه الأخص.
فقد شهد المؤلف في اليمن حكم الدولتين الظاهرية والناصرية ، ثم رأى تدخل العثمانيين في شؤون اليمن حتى صارت فيما بعد ، ولاية تابعة لهم معاكسة عنيدة.
* أ
قامت الدولة الطاهرية بين عامي (855 923 ه) (1451 1517 م)، فترعرع المؤلف وشب في ظلها ، ورأى نهايتها ، وكان قد أنشأها قبل ولادته بحوالي عقد من الزمن ، مؤسسها الأول طاهر بن معوضة ، الذي كان ينسب نفسه للأمويين من قريش ، ويحظى بحماية الملك الناصر أحمد الرسولي ويساعده في تثبيت ملكه كل من ولديه :
Bogga 7
1 الملك الظافر صلاح الدين عامر الأول بن طاهر بن معوضة (811 869 ه) (1408 1464 م).
2 الملك المجاهد شمس الدين علي بن طاهر بن معوضة (809 883 ه) (1406 1478 م). وكان أحب إلى أهل اليمن من أخيه عامر وأكبر منه سنا ، كريما فاضلا حازما شديدا على الباغين والظلمة والمفسدين.
وسيطر الأب وولداه على المدن الساحلية والقريبة من الساحل اليمني ، وتلقبوا بالسلاطين ، ثم اقتسم الولدان فيما بعد الملك والحكم ، فكان لعامر الأول زبيد وما جاورها ، من حيس إلى عدن ، وما يلحق ذلك كتعز وإب ، وضم إليها ذمارا ، ثم حاول الاستيلاء على صنعاء ، فهاجمها خمس مرات فامتنعت عليه ، ثم قتل على بابها في عام (869 ه 1464 م) أي بعد ولادة المؤلف بحوالي ثلاث سنوات.
وكان لعلي أرض تهامة من حرض إلى حيس ، مدنها وبنادرها وبرها وبحرها ، مع ما يتصل بذلك من جزائر فرسان وكمران.
ولما قتل أخوه عامر الأول ضم لنفسه ما كان يحكمه أخوه من بلاد اليمن ، فاتسع بذلك ملكه ، واشتهر بعدله وسهره على الإصلاح ، وفرضه الرسوم من أجل ذلك ، وحبه للعمران وبناء المساجد والربط ، والقيام بالأعمال الزراعية كغرس النخل وقصب السكر والأرز ، وله في كل من زبيد وعدن وتعز وغيرها آثار شاهدة على ذلك.
وفي عام (877 ه 1472 م) ولى الملك المجاهد على بعض مقاليد الحكم ابن أخيه عبد الوهاب بن داوود بن طاهر بن معوضة (866 894 ه) (1462 1489 م)، وكان أهلا لذلك حليما ذا رأى وبأس.
ولما توفي الملك المجاهد عام (883 ه 1478 م) خلفه ابن أخيه ذاك بالسلطنة ، وتلقب بالملك المنصور تاج الدين عبد الوهاب ، فكانت له آثار فى اليمن ، وأقام في زيد ، وتوفي فيها عام (894 ه 1489 م).
وخلف الملك المنصور تاج الدين عبد الوهاب في السلطنة ولده الملك الظافر صلاح الدين عامر الثاني بن عبد الوهاب بن داوود بن طاهر بن معوضة سنة (894 ه 1489 م).
Bogga 8
وكان شديد الشكيمة بطاشا ، أقام في زبيد ، واستولى على صنعاء ففتك ببعض أعيانها ، وامتد سلطانه في جميع اليمن.
ومن مآثره عمارة الجامع الأعظم في زبيد ، وعمارة مدرستين ، وإجراء العين في تعز ، وبناء مدرسة عظيمة في عدن وكثير من المساجد والمدارس والصهاريج والآبار في أماكن مختلفة.
وعلى الرغم من قسوة الملك الظافر صلاح الدين عامر الثاني وبطشه وشدة فتكه بالناس ، فإنه لم يستطع الوقوف ضد تدهور الأحوال العامة في اليمن ، واستهتار بعض الناس بأمور الدين واستحلالهم المحارم ، وانحلال الأخلاق العامة وانتشار المفاسد ، وانهيار القيم والمثل الاجتماعية ، وسوء الحالة الصحية.
وقد أدرك ابن الديبع حكم عامر الثاني كله ، وتألم لما آلت إليه أحوال قومه من مفاسد سجلها في تاريخه (الفضل المزيد) في وقائع شهر صفر من سنة (908 ه 1502 م) وكتب يقول :
«ظهر في هذا الوقت في زبيد من الفسوق والفجور وشرب الخمور وشهادة الزور ، ما لم يكن يعهده مثله ، حتى لقد وجد جماعة في نهار رمضان يشربون الخمور ، وبنى بعضهم بزوجة أبيه ، وتظاهروا بصحبة الأحداث ، وحمل بعض الصبيان إلى الأماكن المظلمة للفحش ، وفشا في الناس الحبوب المعروفة بالنار الفارسي بسبب ذلك ، والله الواقي» (2).
وفي سنة (914 ه 1508 م) بدأ البرتغاليون بعبور البحر الأحمر ، ووصلت أساطيلهم البحرية إلى سواحل الهند ، وظهروا في بنادر أرض اليمن ، أي مرافئها البحرية ، متسللين إليها من المحيط الأطلسي من وراء جبال القمر حيث منابع ماء نهر النيل ، واعتدوا على أراضي الهند ، وعلى سلطان كجرات فيها السلطان (خليل شاه مظفر شاه ابن السلطان محمود شاه الكجراتي)، وواصلوا أذاهم حتى بلغوا جزيرة العرب ومرافئ اليمن وموانئها.
Bogga 9
فاستنجد سلطان كجرات بملك مصر السلطان (قانصوه الغوري) المملوكي الجركسي ، وطلب إليه عونه لمقاتلة الفرنجة المعتدين ، فاستجاب (قانصوه الغوري ) للنداء ، وأعلن الجهاد في سبيل الله لدفع الأذى عن المسلمين وبلادهم ، وسير أسطولا بحريا بقيادة أحد أمرائه (حسين الكردي)، وجهز معه عسكرا من الترك المغاربة المعروفين ب (اللوند) في نحو خمسين غرابا ، أي مركبا بحريا يجدف بمئة وأربعين مجدافا ، فاتجه هذا الجيش إلى جدة أولا ، فتقوى بالمال ، وتأثل ، وجمع خزائن من كل صنف ، توجه بها إلى الهند في حدود سنة (921 ه 1515 م) ودخلها ، والتقى سلطان كجرات ، فأكرمه وعظمه وأنعم عليه إنعاما كبيرا.
فلما علم الفرنجة المعتدون بقدومه ، فرواهاربين عن موانئ كجرات إلى مرافئ الدكن وتحصنوا بقلعة (غوا) خائبين منهزمين (3).
وعاد الأمن والسلام إلى الهند ، وانتهت مهمة حسين الكردي فيها ، وكان عليه أن يعود إلى مصر عن طريق جدة ، لكنه عرج بأسطوله ، وهو في طريق العودة ، إلى شواطئ اليمن ، وطلب إلى السلطان عامر الثاني سنة (922 ه 1516 م) إعانته بشىء من الميرة لخروجه لقتال الفرنجة البرتغاليين ، الذين كانوا يعتدون على بلاد المسلمين ، ويتخطفون مراكبهم ، فامتنع عامر ، ودارت الحرب بينهما في قلة من الجراكسة من جيش الكردي مزودين بالبنادق النارية التي لا عهد لليمنيين بها ، وكثرة من اليمنيين من أصحاب عامر ، فروا وانهزموا لما هاجمهم جنود الكردي بالبنادق فسمعت أصواتها ، وقتلوا كثيرا منهم ، وتتبعوهم ، واستولى القائد الكردي على زبيد سنة (922 ه 1516 م)، ونصب (برسباي) أخاه أو أحد مماليكه ، نائبا له فيها.
وأرسل من يطارد عامرا الثاني وأخاه عبد الملك حتى قتلا ، وهما يحاولان استعادة ملكهما من يد برسباي ، في جبل نقم قرب صنعاء في الثالث والعشرين من ربيع السنة من عام (923 ه 1517 م)، وبهذا انتهت دولة بني طاهر.
Bogga 10
وحزن ابن الديبع لمقتلهما حزنا شديدا ، ولا سيما أن من أمر بمطاردتهما وقتلهما هو الأمير الكردي الذي كان ظلوما غشوما سفاكا للدماء ، كرديا محبوبا من السلطان الغوري ، مكروها من أمراء الجراكسة الذين يعدونه دخيلا فيهم ، فأبعده السلطان الغوري بهذه الحملة عنهم حماية له منهم ، ورفعا لمنزلته إذا انتصر في حملته تلك.
وكذلك فإن الكردي لم يطلب المال من السلطان عامر للاستعانة به ضد الكفار ، وهو في طريقه إلى الحرب ، بل حين العودة منها ، وهذا ما عده عامر ابتزازا واستغلالا يأباه ، ولولا أن جنود عامر لم يألفوا البنادق النارية الحربية الجديدة لسحق حسين الكردي ومن معه في اليمن.
وقد روى ابن الديبع أخبار عامر وأخيه عبد الملك في كتابيه (بغية المستفيد بأخبار مدينة زبيد) و (قرة العيون بأخبار اليمن الميمون)، وتأثر جدا لنهايتيهما ورثاهما بقوله :
أخلاي ، ضاع الدين من بعد عامر
وبعد أخيه أعدل الناس بالناس
ودخل الجراكسة صنعاء سنة (923 ه 1517 م) ففعلوا أفاعيل منكرة.
* ب
ولم يكن بنو طاهر وحدهم في اليمن ، فقد كان فيه عدة أمراء ، يحكم كل منهم جزءا منه صغيرا أو كبيرا.
وكان من الذين أدركه ابن الديبع منهم :
1 المتوكل على الله (... 879 ه) (... 1474 م):
وهو المطهر بن محمد بن سليمان يحيى بن حمزة ، أبو محمد ، الملقب بالمتوكل على الله ، من أئمة الزيدية باليمن ، دعا إلى نفسه سنة (840 ه)، وقاومه الناصر الزيدي أحمد بن محمد المطهر بن يحيى من أئمة الزيدية باليمن أيضا ، المتوفى عام 867 ه.
وما زالت صنعاء بينهما ، يملكها أحدهما وينتزعها منه الآخر إلى أن أسره الناصر
Bogga 11
فحبسه في حصن الربعة ، وفر من محبسه بعد مدة ، وتغلب على الناصر ، واعتقله سنة (866 ه) وحبسه في كوكبان حتى مات في حبسه عام (867 ه) ونقل إلى صنعاء.
وحسنت حال المتوكل بعدئذ واستقر ، إلى أن توفي بذمار (4).
وقام من بعده :
2 الهادي إلى الحق (845 900 ه) (1442 1495 م):
وهو عز الدين بن الحسن بن علي المؤيد من أئمة الزيدية وعلمائهم باليمن ، ولد ونشأ في أعلى فللة ، وانتقل إلى صعدة ، ثم إلى تهامة ، وبرع فى علوم الدين ، ودعا إلى نفسه ، وتلقب بالهادي إلى الحق كجده ، فبايعه أهل فللة سنة 879 ه ، وأطاعته بلاد السودة وكحلان والشرفين والبلاد الشامية في اليمن. واستمرت إمامته إلى أن توفي بصنعاء. وكان قد أنشأ عدة مساجد ، وصنف كتبا منها المعراج في شرح المنهاج للعرشي ، والفتاوي وهو مجلد ضخم يعتمد عليه في مذهب الإمام زيد (5).
وقام من بعده ابنه :
3 الناصر الزيدي (862 929 ه) (1458 1523 م):
وهو الحسن بن عز الدين الناصر للدين ، فكان من أئمة الزيدية باليمن ، دعا لنفسه في حصن كحلان ، بعد وفاة والده سنة (900 ه 1495 م)، وخطب له بمدينة صعدة ، وناوأه خصوم له ، فلفقوا عليه قصة أوجبت حكم القضاء بفسخ إمامته ، فمال عنه الناس ، واستمر في قلة منهم ، وتوفي في مدينة فللة شمالي صنعاء ، وكان فقيها فاضلا ، له (القسطاس المقبول في شرح معيار العقول في الأصول) و (رسائل فيها أدب وبلاغة) (6).
وفي خلال ذلك قام :
Bogga 12
4 محمد بن الناصر (... 908 ه) (... 1503 م):
وهو محمد بن الناصر بن محمد بن الناصر بن أحمد بن الإمام المطهر بن يحيى الحسني ، أمير يماني من أهل العلم بالحديث ، له كتاب فيه ، وتولى مدينة صنعاء وبلادها أربعين سنة ، وكان حسن السيرة محبوبا ، وفي أيامه أغار السلطان عامر بن عبد الوهاب على صنعاء ، وجرت بينهما حروب ، ومات بصنعاء (7).
وفي الوقت نفسه ظهر :
5 المهدي العلوي (... 943 ه) (... 1536 م):
وهو أحمد بن يحيى بن الفضل ، من سلالة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الحسني العلوي ، شمس الدين ، إمام زيدي من كبار القائمين في اليمن ، كان آباؤه يتوارثون الإمامة خفية في عهد الدولة الرسولية ، ولما ظهر ضعف الرسوليين جهر المهدي أحمد بن يحيى بدعوته ، فالتف حوله خلق كثير ، وجعل جبال صنعاء قاعدة لملكه واستمر إلى أن توفي عام (943 ه 1536 م) (8).
وقام من بعده ابنه :
6 المتوكل الزيدي (877 965 ه) (1473 1558 م):
وهو يحيى شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى الحسني العلوي ، المتوكل على الله من أئمة الزيدية في اليمن ، ومن فقهائهم وشعرائهم ، بويع له بالإمامة في جبال صنعاء بعد وفاة أبيه سنة (943 ه 1536 م)، وعظم أمره ، فكانت له وقائع مع الترك ، وأطاعته قبائل كثيرة ، وشجر خلاف بينه وبين ابنه المطهر (محمد بن يحيى) أدى إلى استيلاء الأتراك على كثير من جهات اليمن ، ثم اتفقا على أن يحتفظ الأب بالإمامة ، ويتولى الابن سياسة البلاد فولي الأعمال وقاد الجيش ، وضربت السكة باسم
Bogga 13
المطهر في حياة أبيه ، واستقر المتوكل في كوكبان ، ثم انتقل إلى ظفير حجة وفقد بصره ، وتوفي بالظفير عام (965 ه 1558 م) (9).
وقام من بعده ابنه هذا الإمام :
7 المطهر فخر الدين محمد بن يحيى الملقب بالناصر (908 980 ه) (1503 1572 م):
بويع له في جبل صنعاء بعد وفاة والده ، وعظم أمره ، فملك ملكا واسعا في أعالي اليمن ، وحاربه الأتراك العثمانيون حروبا طويلة ، انتهت بالصلح معه ، على أن تبقى له صعدة وكوكبان وأعمالها.
واستمر في ذلك إلى أن توفي عام (980 ه 1572 م) (10) فخلفه أبناؤه من بعده في مقاومة العثمانيين.
* ج
ثم إن ابن الديبع قد عاصر من العثمانيين :
1 السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح (833 886 ه) (1429 1481 م):
وهو سابع سلاطين بني عثمان الذي افتتح القسطنطينية في 20 جمادى الأولى سنة 857 ه الموافق ل 29 أيار 1453 م أي قبل ولادة ابن الديبع بتسع سنوات تقريبا ، وبذلك حقق نبوءة النبي العربي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أحمد في مسنده إذ يقول :
عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «لتفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش» (11).
Bogga 14
وكذلك ورد : «عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المدينتين تفتح أولا ، القسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مدينة هرقل تفتح أولا ، يعني قسطنطينية» (12).
وقد فتحت القسطنطينية وتحققت فيها نبوءة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بد أن تتحقق في رومية بقية النبوءة. ولكنا لا نزال ننتظر صحوة المسلمين وعودتهم إلى كتاب الله وسنته ، لتتحقق على أيديهم تمام النبوءة بفتح رومية ، فيعود العدل والسلام إلى أرجاء عالمنا المضطرب المليء بالمظالم والحقد.
وقد حول السلطان محمد الفاتح اسم القسطنطينية إلى (إسلامبول) أي مدينة الإسلام أو تخت الإسلام ، وهي ما تسمى (الآستانة) أو (إستانبول).
وحفظ التاريخ للرجل موقفه هذا في الدفاع عن الإسلام وانتصاره على الروم ، الذي جاء بعد سنتين من توليه سدة الحكم سنة (855 ه 1451 م) وهو ابن اثنين وعشرين عاما ، يضج عزما وشبابا.
وظن ملك الروم قسطنطين التاسع أن باستطاعته التحكم بأمر هذا الشاب وفرض الهيمنة عليه ، فأرسل إليه يتهدده ، ويطالبه بمضاعفة مبلغ الجزية السنوية التي كانت تدفع له ، فكان الرد عليه بفتح القسطنطينية ، أبلغ رد وأقواه.
وخلف السلطان محمدا الفاتح من بعده السلطان بايزيد الثاني (13).
2 السلطان بايزيد الثاني (... 918 ه) (... 1512 م):
وقد أدرك ابن الديبع فترة حكمه كلها التي استمرت بين عامي (886 918 ه) (1481 1512 م)، وهو ثامن سلاطين بني عثمان الذين حكموا قبله حسب الترتيب التالي :
1 عثمان الأول (679 725 ه) (1281 1324 م).
2 أورخان (725 761 ه) (1324 1360 م).
Bogga 15
3 مراد الأول (760 791 ه) (1359 1388 م).
4 بايزيد الأول (الصاعقة) (791 805 ه (1388 1403 م)، وهو قد عاش من (761 805 ه) (1360 1403 م)، وجابه حملة الصليبيين في نيقوبوليس وهزمهم فيها شر هزيمة في 23 ذي القعدة 798 ه 27 أيلول 1396 م (14).
5 محمد الأول (805 824 ه) (1403 1421 م).
6 مراد الثاني (824 855 ه) (1421 1451 م).
7 محمد الثاني الفاتح (855 886 ه) (1451 1481 م).
8 بايزيد الثاني (886 918 ه) (1481 1512 م).
وقد جاء بعده ابنه السلطان سليم الأول الذي أدرك ابن الديبع فترة حكمه كلها ، وهو :
3 السلطان سليم الأول (885 926 ه) (1480 1519 م):
وهو سليم الأول (ياووز) بن بايزيد ، تاسع سلاطين بني عثمان ، وقد افتتح الشام ودخل حلب ودمشق ودان له الحجاز ولقب باسم حامي الحرمين الشريفين ، وخطب له على المنابر باسم (سلطان البرين وخاقان البحرين) (15)، ودام حكمه من عام (918 926 ه) (1512 1520 م).
وكذلك دخل السلطان سليم مصر ، وقتل سلطانها قانصوه الغوري في معركة مرج دابق بتاريخ 25 رجب الخير سنة 922 ه الموافق ل 24 آب 1516 م (16)، وأسر الأمير طومان باي الذي خلف قانصوه في سلطنة مصر بتاريخ 21 ربيع الأول سنة 923 ه الموافق 13 نيسان سنة 1517 م ، وصلبه في القاهرة (17).
Bogga 16
كما أسهم السلطان سليم في دعم خير الدين بربروس المجاهد في البحر في الدفاع عن الجزائر وإنقاذ مسلمي الأندلس ، فقد أمده بإرسال أربعة عشر سفينة محملة بالمقاتلين الأشداء والإمدادات ضد الإسبان خاصة ، وضد الفرنج عامة ، فهاجم الإسبان الذين كانوا قد بسطوا نفوذهم على الجزائر ، فما زال بهم حتى أخرجهم منها سنة (922 ه 1516 م)، وارتاع الإسبان لظهور هذه القوة الجديدة التي لم يحسبوا لها حسابها ، فأخذوا في الإعداد للرد عليها ، وقام الكاردينال (خميني أو خمينيس) بتجهيز حملة جديدة ضد الجزائر ضمت 35 سفينة تحمل ثمانية آلاف رجل أبحرت إلى الجزائر فاصطدمت في 30 أيلول سنة 1516 م 922 ه بالمقاومة المنظمة الضارية بقيادة بربروس ، وفشلت الحملة وخسر الإسبانيون نصف قوتهم ، وما زال بهم حتى حرر الجزائر منهم.
لقد عرف خير الدين أنه لا سبيل له لمقاومة الهجوم الصليبي الشامل إلا بدفاع إسلامي شامل ، وأنه لا بد للوصول إلى هذه الغاية من تحرير كل ما تبقى من المغرب العربي الإسلامي ، وانتزاعه من قبضة الإسبان.
وفي إحدى المعارك القاسية ضد الإسبان خسر خير الدين أخاه القائد (عروج) نصيره وساعده ، فكانت صدمة ، اضطرت معها شيوخ الجزائر وأصحاب الرأي فيها إلى الاتصال بالسلطان سليم ، وعرضهم عليه أن تكون دولتهم الفتية جزءا من الدولة العثمانية الإسلامية ، فوافق السلطان وعين خير الدين حاكما لها.
وأرسل السلطان سليم قوة لدعم الجزائر ضمت أربعة آلاف مجاهد مع كميات ضخمة من الإمدادات.
ونظم شارلكان حملة قوية ضمت قوات من كل أوربة ، سارت إلى الجزائر سنة (925 ه 1519 م)، فتصدى لها خير الدين ومن معه من أهل الجزائر والجنود العثمانيين ، ودمروا الأسطول الفرنجي كله في مياه الجزائر ، وغنم أبناء الجزائر ما حمله الصليبيون من مدافع وذخائر وإمدادات ، كما خسر الإسبان في البحر أربعة آلاف قتيل من المقاتلين ، وأسر المسلمون منهم ثلاثة آلاف مقاتل.
وهذا ما يفسر حقد كل الغربيين المر على العثمانيين وتشويههم سمعتهم ما وسعهم ذلك
Bogga 17
ليفرقوا بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة بقوله تعالى : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم فاعبدون ) [الأنبياء 21 / 92]. وقوله أيضا : ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم فاتقون ) [المؤمنون 23 / 52] ، فهل نعي ذلك أو نكفر به؟؟!!
أعاد خير الدين تنظيم الجزائر وتحصينها والجهاد في سبيل الله في البحر ضد الفرنج ، فتصاعدت حملة محاكم التفتيش ضد بقايا مسلمي الأندلس الذين قاموا بثورة فشلت سنة (937 ه 1531 م)، واحتشد الثوار المسلمون على ساحل البحر ، فأسرع خير الدين لإنقاذهم ومعه 36 سفينة ، نقل فيها إلى الجزائر على سبع مرات متتالية سبعين ألفا من المسلمين.
وأعد شارلكان حملة ضخمة ضد الجزائر سنة (941 ه 1535 م)، لم تحقق من هدفها إلا الاستيلاء على تونس وذبح أهلها من المسلمين.
وعاد شارلكان بحملة جديدة ضد الجزائر سنة (947 ه 1541 م) ضمت أفضل نبلاء أوربة ، وبلغت قوتها 24 ألف مقاتل ، و450 سفينة ضخمة ، و65 سفينة حربية ، غير أن الحملة فشلت ومات شارلكان مقهورا ، وعاش بربروس ظافرا ، وبقيت رايات المسلمين خفاقة عالية.
وعينت الدولة العثمانية بربروس وزيرا للحربية فيها. وكان الكتاب الغربيون قد وصفوه في أشعارهم وكتبهم بالقرصان وبكل أوصاف الرعب ، وما هو بالقرصان ، وإنما هو المجاهد في سبيل الله الذى اختار البحر ميدانا لجهاده ، فارتبط الجهاد في البحر باسمه زمنا طويلا (18)، وكانوا هم المعتدين الغادرين دوما وأبدا حتى يومنا هذا ، فهلا من بربروس صنديد ، يعيد لنا من جديد مجدنا وعزتنا ، والتاريخ يعيد نفسه باستمرار!!!
أما في اليمن فكان السلطان سليم قد اعترف بإمارة حسين الكردي على اليمن ، لكن الشكاوى الثقيلة التي قدمت إليه من ظلمه ، وما بدر منه من حركات مشبوهة ، أسفرت عن إعدامه عام (923 ه 1517 م) بأمر من السلطان سليم إلى أمير مكة الشريف بركات ،
Bogga 18
الذي أخذه مقيدا إلى جدة ، وربطه بحجر كبير وأغرقه في بحرها ، فأكلته الأسماك بعد ما قتل ما شاء الله من العباد (19).
وكان يرافق حسين الكردي بأسطوله الذي أقلع به من مصر إلى الهند ، وعرج به إلى اليمن أعداد كثيرة من الجراكسة ، تمكنوا من إنشاء إمارة صغيرة في زبيد ، ودخلوا صنعاء عام (923 ه 1517 م)، واستولى برسباي على تعز في 6 صفر 923 ه 1517 م ، واستمر يحكمها حتى مات بزبيد في جمادى الآخرة سنة 923 ه 1517 م ، وخلفه أمير جركسي آخر اسمه إسكندر (20).
وكان هؤلاء الجراكسة في اليمن قد قصدوا المتوكل على الله شرف الدين يحيى بن شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحيى الآنف الذكر ، فوقع الصلح على بقاء الجراكسة في صنعاء ، والإمام في حصن ثلا ، واشترط الجراكسة ملاقاة الإمام الذي استشار أصحابه فأشير عليه بعدم ذلك ، لما جبل عليه أولئك الجراكسة من المكر والغدر ففعل ، فلما علم الجراكسة ذلك عادوا إلى القتال فلم يظفروا بطائل.
ولما علموا باستيلاء السلطان سليم على مصر عرض زعماؤهم الطاعة للسلطان وذكروا اسمه في الخطبة ، وكفوا عن مقاتلة الإمام المتوكل ، ورجعوا عما كانوا فيه من القتال بعد عبثهم باليمن ، وقتلهم النفوس البريئة ، وهتكهم الحرم ونهبهم الأموال.
وانفرد الإمام المتوكل بالحكم فدانت له صنعاء وبلادها ، وصعدة وما بينهما من المدن ، ثم وسع حدوده بعد مقتل عامر الثانى ، فافتتح من بلاد بني طاهر التعكر وقاهرة تعز وحراز (21).
وكذلك فإن أكثر الانكشارية الذين رافقوا السلطان سليما إلى مصر ، قصدوا اليمن ، فمنهم من أنشأ هناك حكما خاصا به ، ومنهم من اتفق مع الجراكسة في الحكم ، وكانوا بصورة متلاحقة في صراع فيما بينهم وبين الأئمة المحليين.
Bogga 19
وقد أدرجت التواريخ أسماء المتقدمين من هؤلاء الأتراك الذين عرفوا بتسمية (روملو لوندلر اللوند الأروام)، وهم من الجند الأتراك ، بحارة الأسطول المجندين من الأناضول (22).
واستمر السلطان سليم في الحكم حتى وفاته في 8 شوال سنة 926 ه الموافق ل 22 أيلول 1520 م ، وهو في طريقه إلى (أدرنة)، وخلفه ابنه سليمان خان الأول القانوني (23).
4 السلطان الغازي سليمان خان الأول القانوني (900 974 ه) (1495 1566 م):
وهو سليمان الأول ابن سليم الأول ، عاشر سلاطين بني عثمان ، وهو يمثل العصر الذهبي للأتراك العثمانيين ، فسمي لذلك في المصادر الغربية ب (سليمان الفاخر)، ولقب بالقانوني لكثرة ما سن من التشريعات الإصلاحية وجعلها دستورا للحكم.
وبعد وفاة والده السلطان سليم تولى مقاليد السلطة بتاريخ 16 شوال 926 ه الموافق ل 30 أيلول 1520 م ، ودام حكمه نصف قرن ، وكان قد ورث إمبراطورية امتدت من حدود النمسا غربا حتى مشارف إيران شرقا ، وهذا ما جعل الحرب وسيلة لا بديل عنها للاحتفاظ بهذا الميراث ، وقد تعددت في عهده جبهات القتال برا وبحرا ، كما تعددت الدول التي وقفت موقف العداء للسلطان والدولة الإسلامية.
وفي عهده قامت سياسة البرتغال في حربها مع الدولة العثمانية على تخريب الاقتصاد العثماني بتحويل تجارة الشرق عن طريقي السويس والخليج العربي والهند وإفريقية الشمالية حتى مدخل البحر الأحمر والمحيط الهندي ، فكان ذلك سببا في العناية التي أولاها السلطان سليمان للأسطول العثماني في البحر الأحمر والمحيط الهندي بتكليف الوالي (سليمان باشا الخادم) تجهيز نواة هذا الأسطول في السويس (24).
ومع اتساع الدولة الكبير كانت الإدارة القوية الحازمة والقدرة التنظيمية العالية ،
Bogga 20
والرؤية الواضحة للأمور ، وهذا ما توافر في السلطان سليمان ، إذ تولى الحكم وهو في السادسة والعشرين من عمره ، والدولة في أوج شبابها المتفتح ، فكان لقاء الشباب بين الإنسان والدولة.
شب السلطان سليمان ، وإسبانية تحتل المرتبة الأولى في العداء ضد المسلمين ، والمسلمون يلقون أشد أنواع التعذيب والإيذاء من محاكم التفتيش في الأندلس بجرائم ومجازر يندى لها وجه التاريخ ، ولم يكتف نصارى الأندلس بذلك بل انتقلوا إلى الهجوم على بلدان المغرب العربي الإسلامي ، فلما اعتلى السلطان سليمان سدة الحكم ، حاصر طائفة الإسبتارية أعدى أعداء الإسلام حينئذ ، وأشدهم تعرضا لسفن المسلمين في البحر ، فاضطرهم بعد معارك عنيفة ضارية إلى إخلاء جزيرة رودس والانسحاب منها إلى مالطة.
ثم وجه ضربة مؤلمة إلى ملك إسبانية شارلكان حين استجاب لطلب خصمه ملك فرنسة وحالفه ودعمه ضده.
وكذلك قاد بنفسه جيوشه في معركة وادي موهاكس (مهاج) في 20 ذي القعدة سنة (932 ه 1526 م)، وسحق جيش المجر ، وقتل ملكهم لويس ، ودخل (بودا) وحول كنيستها إلى مسجد ، ثم انتقل إلى (فيينا) واستولى عليها ، وأثبت أن كفاءته العسكرية لا تقل بحال من الأحوال عن كفاءته السياسية.
ثم وجه الأسطول الإسلامي بقيادة خير الدين بربروس ، فعمل على طرد الإسبانيين من الجزائر وتونس وحررهما ، ثم استولى على نيس سنة (950 ه 1543 م)، وانتقل منها إلى طولون ، وأقام فيها حوالي ستة أشهر.
وبذلك أنقذ ديار الإسلام من غزو الفرنج ، وأظهر للإسلام والمسلمين من العزة والقوة ما كان عليه حالهم أيام الفتح الأولى ، فاتصل عهده بعهد السلف الصالح من الخلفاء الراشدين ومن سار على هديهم من الأمويين والعباسيين.
وتمسك بنهج كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فحارب المنحرفين عن ذلك في بلاد فارس وكانوا بقيادة طهماسب فأخضعهم وأعادهم للجادة.
Bogga 21
وهكذا جاهد في سبيل الله تعالى في الداخل وفي الخارج ، واعتز بالله تعالى فأعزه ، وأعز به المسلمين ، وكيف لا؟! والله تعالى يقول : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن المنافقين لا يعلمون ) [المنافقون 63 / 8].
وكان يستهل كتبه بالآية الكريمة : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [النمل 27 / 30].
وكان له من الآثار في كل عاصمة من عواصم الإسلام ما يفتخر به الدهر ، فقد بنى واحدا وثمانين جامعا كبيرا ، واثنين وخمسين مسجدا صغيرا ، وخمسا وخمسين مدرسة عامة ، وسبعة معاهد لدراسة القرآن الكريم ، وسبع عشرة تكية لإطعام الفقراء مجانا.
وغير ذلك كثير مما هو قائم حتى الآن ، ولا يستطيع إنكاره أي عدو حاقد أو متفرنج مهووس. ويحفظ التاريخ إلى الأبد لرجل التاريخ مواقفه المشرفة تلك (25).
أما في اليمن فقد عزل السلطان سليمان الأمير إسكندر عن اليمن سنة (927 ه 1520 م)، وقد تتابع على إمارتها في عهده رؤساء من الأتراك اللوند ، وهم بحارة الأسطول المجندون من الأناضول ، وكان أولهم (كمال بك) سنة (927 ه 1521 م) الذي صرع على أيدي جنوده سنة (930 ه 1524 م) فخلفه (إسكندر)، ثم تلاه (حسين بك) سنة (931 ه 1524 م)، ثم تبعه (الروملي مصطفى) سنة (935 ه 1529 م)، ثم عقبه (سيد علي بك) لبضعة أشهر في سنة (935 ه 1529 م)، وجاء بعده آخر أمراء اللوند حكما في اليمن (إسكندر) من سنة (937 943 ه) (1530 1536 م).
ثم أسند السلطان سليمان الأول حكم اليمن إلى ولاة من العثمانيين بدأهم ب (بهرام بك) سنة (943 ه 1536 م). ولم يكن حظ هؤلاء في اليمن أفضل من سابقيهم اللوند ، فقد عجزوا من جهة عن حسم الخلافات بين الجنود من الإنكشارية أنفسهم ، الذين وفدوا إلى اليمن من مصر في جيش السلطان سليم الأول ، وكذلك لم يتمكنوا من جهة أخرى من إطفاء الفتن التي كانت تشتعل في اليمن بين حين وآخر ، وهذا ما سبب الفشل الذريع لمعظم هؤلاء الولاة الأتراك ، حتى لو كانوا ممن عرفوا بحسن التدبير ، ففقد كل منهم مركزه ومكانته
Bogga 22
واعتباره ، وهذا ما أتاح الفرصة للأئمة الزيديين ، فحصنوا معاقلهم وقلاعهم ، وسببوا للعثمانيين إزعاجات ، لم تمكنهم من تثبيت حكمهم في اليمن الذي كان ينتفض عليهم كثيرا كلما سنحت له الفرصة.
ولئن سالم بعض الأئمة اليمنيين الولاة الأتراك أحيانا ، فإن بعضهم الآخر قد أبى الخضوع لهم وقاومهم ما وسعته المقاومة (26).
وفي عهد السلطان سليمان الأول عاود البرتغاليون الاعتداء على الهند واستولوا على بنادرها وأكثروا أذاهم لبنادر اليمن ، وحاولوا الاستيلاء على عدن ووصلوا إلى بندر جدة وبنادر السويس ، وعاثوا في البحر فسادا ، وأخذوا سفائن الحجاج والتجار غصبا ، وأعملوا في المسلمين وأموالهم أسرا وقتلا ونهبا ، وفتكوا بسلطان كجرات (السعيد الشهيد (بهادر شاه))، وقتلوه غدرا في 3 رمضان (944 ه 1537 م) على ظهر سفينة برتغالية أمام (ديو) في الهند.
وكان هذا (بهادر شاه) الذي تسلطن على (كجرات) في 24 شوال (922 ه 1526 م) ، وقد طلب العون من السلطان سليمان الأول لدفع البرتغاليين وأذاهم عن بلاده وغيرها من البلدان العربية والإسلامية ، فاستجاب له السلطان سليمان الأول ، ووجه من مصر أسطولا بحريا جرارا من السفن والرجال ، سار به إلى أرض الهند ، ليقطع دابر الكفار ، وينظف تلك الأقطار من الكفرة الفجار ، ففتح عدن ومسقط وجزيرة هرمز ، واستولى على أغلب الحصون التي أقامها البرتغاليون ما بين جنوب الجزيرة العربية وبلاد الهند (27).
ولكن هذا الأسطول العثماني السليماني العتيد ، كان بقيادة (خادم سليمان الأرنؤوطي) المشهور بالظلم والغدر وعدم الوفاء ، فلما مر بالسواحل اليمنية فتح صاحب عدن الأمير (عامر بن داوود بن طاهر بن معوضة) له باب عدن ، وزين الأسواق بوصول العسكر المنصور السليماني ، وإذا بخادم سليمان ينزل قواته أمام باب عدن ، ويقبض بحيلة
Bogga 23
على (عامر بن داوود) ويفتك به ويصلبه على صاري السفينة سنة (944 ه 1537 م) تلك السنة التي توفي فيها المصنف ابن الديبع.
وكذلك فعل بالأمير (أحمد) صاحب زبيد الذي كان من جملة اللوند الذين استولوا على تلك الديار ، فأعطاه (خادم سليمان) الأمان ، ثم طلبه إليه وقتله ، وولى موضعه أميرا ممن كان معه.
وهكذا دخل خادم سليمان اليمن ، ويعد دخوله أول فتح عثماني لليمن (28).
وإذا كان لا بد للحرب من ضحايا لا يمكن تفاديها ، فإن ما حصل من الغدر في اليمن لم يكن بأمر أو رغبة من السلطان سليمان الذي نفى خادم سليمان ، وأمضى زهاء نصف قرن بحكم المسلمين ، فكانت سيرته أحسن سيرة ، وعهده عهد خير ويمن وبركة على المسلمين ، وعهد شدة وقوة على أعداء الإسلام والمسلمين ، وظل كذلك حتى توفي متأثرا بمرض النقرس في عام (975 ه 1566 م) (29)، رحمه الله واسعة ، وعوضنا عنه اليوم من يصون البلاد ويحرر العباد من الظلم الاستعماري القائم في كل مكان من هذه المعمورة التي نعيش فوقها.
* د
ويتبين من كل ما ذكر آنفا ، أن ابن الديبع قد عاش في اليمن البلد العربي الإسلامي ، وشهد الأفراح والأتراح التي حدثت في عصره ، ورأى توزع اليمن إلى إمارات تتصارع على السلطة عليها صراعا قويا تلك الأسر اليمنية المتنازعة على حكم اليمن ، وما جر إليه ذلك من فتن واضطرابات قبلية وعصبية ومذهبية وغيرها.
ولئن كان المؤلف قد ولد بعد حوالي عقد من الزمن من فتح القسطنطينية ، ودك آخر معاقل الظلم والبغي والعدوان على أمته ، وأدرك عزة الإسلام على يد سليمان القانوني العثماني وقائده خير الدين بربروس ، اللذين طردا الإسبانيين من الجزائر وتونس ، فإنه أيضا قد شهد تسلل البرتغاليين المتتابع إلى السواحل اليمنية والهندية ، وكيف صدتها قوات
Bogga 24