الفهم الوظيفي للمعرفة
عرضنا في الفصول السابقة عددا من نتائج الفلسفة العلمية. كما استعرضنا الأداتين الرئيسيتين للمعرفة، وهما المنطق الاستنباطي والمنطق الاستقرائي، من حيث مناهجهما ونتائجهما. وأود أن أقدم في هذا الفصل موجزا لأعم أجزاء الفلسفة العلمية، الذي ظهر فيه فهم جديد للمعرفة، وقدم فيه حل علمي لمشكلة الواقع الفيزيائي. ولكي أوضح طبيعة هذا الفهم الجديد للمعرفة فسوف أقارنه بذلك الفهم الذي ظل سائدا بدرجات متفاوتة من الوضوح، في المذاهب الفلسفية التقليدية.
إن الفلسفة التأملية تتميز بالفهم المتعالي
1
للمعرفة، الذي تعلو فيه المعرفة على الأشياء الملاحظة وتتوقف على استخدام مصادر أخرى غير الإدراك الحسي، أما الفلسفة العلمية فقد توصلت إلى فهم وظيفي للمعرفة، يرى في المعرفة أداة للتنبؤ، ويؤكد أن الملاحظة الحسية هي المعيار الوحيد المقبول للحقيقة غير الفارغة. وأود أن أعرض كلا الرأيين بمزيد من التفصيل لكي أواجه كلا منهما بالآخر.
لقد كان التعبير الرمزي الكلاسيكي عن الفهم المتعالي للمعرفة هو تشبيه الكهف عند أفلاطون. فأفلاطون يصور كهفا يمشي فيه أشخاص عديدون، ولدوا فيه ولم يغادروه أبدا. هؤلاء الأشخاص مقيدون بسلاسل إلى أماكنهم بحيث يواجهون الجدار الخلفي للكهف ولا يستطيعون تحريك رءوسهم. وأمام مدخل الكهف توجد نار تلقى بأشعة من الضوء داخل الكهف وعلى الجدار الخلفي. وبين النار والمدخل يمشى أناس وتسقط ظلالهم على الجدار الخلفي للكهف، فيرى سكان الكهف هذه الظلال، ولكنهم لا يرون أبدا الناس الموجودين بالفعل، لأنهم لا يستطيعون أن يديروا رءوسهم، فيتوهمون أن الظلال هي الأشياء الحقيقية، ولا يعلمون أبدا أن هناك عالما في الخارج، لا يرون منه إلا الظلال. ويقول أفلاطون إن المعرفة التي يكونها البشر عن العالم الطبيعي إنما هي معرفة من هذا النوع. فعالم الإدراك الحسي أشبه بالظلال التي تتحرك على جدار الكهف. والفكر وحده هو الذي يستطيع أن يكشف لنا عن وجود حقيقة أعلى، لا تعد الموضوعات المنظورة بالنسبة إليها إلا صورا هزيلة.
ولقد ظل تشبيه الكهف، طوال ألفي عام، يرمز لموقف الفيلسوف التأملي. فهو يعبر عن رأي شخص لا يقنع بنتائج التجربة الحسية على الإطلاق، وتتملكه رغبة قوية في تجاوز مجال الموضوعات الملاحظة، وما يمكن أن يستخلص منها بالاستقراء. وهو يصور المعرفة التجريبية في صورة بديل هزيل لمعرفة أفضل لا يصل إليها إلا الاستبصار العقلي، وتظل وقفا على الرياضي والفيلسوف. وتلك هي النزعة المتعالية في أنقى صورها؛ ففيها يبدأ اتجاه في التفكير الفلسفي بلغة قمته في التمييز بين الظواهر والأشياء في ذاتها. ولقد أسفر ذلك المركب الشامخ للفلسفة العقلية، الذي وضعه كانت، عن تكرار للتقسيم الثنائي إلى عالم هنا وعالم «هناك»، وهو التقسيم الذي بدأ به المذهب العقلي مسيرته الظافرة طوال تاريخ الحضارة الغربية - والذي يرتبط من الوجهة النفسية ارتباطا وثيقا بالثنائية الدينية بين هذه الحياة الأرضية والحياة السماوية المقبلة.
وليس في وسع الفلسفة العلمية أن تقول الكثير لأولئك الذين يرفضون التخلي عن هذه الثنائية. فالمذهب العقلي إنما هو ميل انفعالي متحيز نحو عالم من الخيال، وهو سخط على الواقع الفيزيائي ينبثق عن دوافع غير منطقية، ولا يمكن شفاؤه إلا بوسائل خارجة عن مجال المنطق. وفي استطاعة عالم المنطق في أيامنا هذه أن يبين أن هدف النزعة العقلية لا يمكن بلوغه، وأن المعرفة المستمدة من العقل وحده فارغة، وأن العقل لا يستطيع أن يدلنا على قوانين الطبيعة. غير أن التخلي عن الرغبة في بلوغ ما لا يمكن بلوغه، وأن المعرفة المستمدة من العقل وحده فارغة، وأن العقل لا يستطيع أن يدلنا على قوانين الطبيعة. غير أن التخلي عن الرغبة في بلوغ مالا يمكن بلوغه يقتضي إعادة نظر في القيم الانفعالية. والواقع أن الرمز المعبر عن المثالي العقلي ليس هو ذلك الشخص الذي يكشف الأسباب غير الملاحظة للظواهر الملاحظة؛ إذ إن هذا هو ما يفعله العالم، الذي سرعان ما يتوصل بطريقة البرهان غير المباشر. لو قيد في كهف أفلاطون، إلى أن للظلال الملاحظة أسبابا خارجية.
2
فتجاوز نطاق الموضوعات الملاحظة بالاستدلال العلمي هو المنهج المشروع الذي يتبعه التجريبي. أما رمز المثالي فهو ذلك الشخص الذي يلجأ إلى أحلام اليقظة لأنه لا يستطيع أن يستمتع بالواقع مع كل ما فيه من نقائص أخلاقية وجمالية. فالمثالية هي المظهر الفلسفي للنزعة الهروبية، وقد كانت تزدهر على الدوام في أوقات الكوارث الاجتماعية التي زعزعت أسس المجتمع البشري. وعلى الرغم من صعوبة التغلب على الإرضاء التخديري للرغبات في الأحلام، فإن هناك وسائل للتخلص من الاعتقاد العقلاني بالأشياء في ذاتها، التي هي نقية خالصة، وغير ملاحظة، وتتجاوز الوجه السطحي للمظاهر، فقد يكون من الممكن أحيانا تحقيق عملية إعادة التكيف الانفعالي هذه بدراسة العلوم الوضعية، والشعور بالرضا الانفعالي الناتج عن السيطرة على الموضوعات الملاحظة والتنبؤ الناجح بسلوكها. ولكن قد يحتاج الأمر أحيانا إلى تدخل التحليل النفسي.
Bog aan la aqoon