Napoleon Bonaparte ee Masar
نابوليون بونابارت في مصر
Noocyada
المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري
من 14 يونيه-22 أغسطس سنة 1799 (1) مسألة القضاء الشرعي
كانت المدة التي قضاها نابوليون في القطر المصري بعد عودته من سورية إلى مبارحته هذه الديار «من 14 يونيه إلى 22 أغسطس سنة 1799» مملوءة بالحوادث الهامة، منها ما هو محلي موضعي، ومنها ما هو عام دولي، فمن الحوادث المحلية التي كان لها شأن هام واهتمام في الهيئة الاجتماعية المصرية حادثة ابن القاضي التي فتحت باب القضاء الشرعي في مصر، وقد سبق للقارئ أن علم من الفصل السابق في الحوادث التي وقعت أثناء الحملة السورية، أن مصطفى بك أمير الحج قد استغوى إبراهيم أفندي أدهم قاضي قضاة القطر المصري المعين بأمر جلالة السلطان، خليفة المسلمين صاحب السلطة الشرعية، فأصبحت مصر في ذلك الحال بغير قاض شرعي تصدر باسمه الأحكام ويأذن للقضاة بالنظر في الدعاوى، ويظهر أن الجنرال دوجا لما تغيب القاضي خاف من اضطراب القضاء، فساس الأمور بحكمة ودهاء، وترك مركز القاضي لولده المدعو ملأ زاده أفندي، ويظهر أن العلماء والمشايخ والأعيان لم ينكروا عليه ذلك بل سرهم ورضوا به ، كما يتبين لنا من تمسكهم بابن القاضي واهتمامهم بأمره كما سيجيء بيانه، ولا أدري كيف كان تصور القوم في ذلك الزمن، ألمجرد أن إياه كان متواليا للقضاء بفرمان سلطاني، يكون لذلك الفتى ما كان لأبيه من السلطة الشرعية؟ أم لمجرد أنه تركي وابن تركي يكون له حق النظر في شئون المسلمين والفصل في قضاياهم وخصوماتهم؟
وعلى كل حال فإن الذي ارتضاه الجنرال دوجا لم يرضه نابوليون، وأراد البت في مسألة القضاء الشرعي في مصر حتى يقطع الصلة بينها وبين السلطنة العثمانية بعد كل الذي أظهر من رغبة الاتفاق مع الدولة العلية، وبعد علمه بأن تركيا قد اشهرت عليه الحرب، وأن الجيوش العثمانية بالاتفاق مع إنكلترا، قادمة للنزاع معه على السلطة في هذه الديار! فلم يكد يفرغ نابوليون من حفلاته وزياراته، وتوزيع منشوراته، حتى أصدر أمره في 22 محرم سنة 1214 بإلقاء القبض على ملأ زاده، ابن القاضي، وسجنه في القلعة، فأحدث عمله هذا ضجة في الدوائر الأهلية، كما يظهر ذلك من رواية الجبرتي الذي يقول: «فلما اجتمع أرباب الديوان حضرت إليهم ورقة من كبير الفرنسيس فقرئت عليهم، ومضمونها أن ساري عسكر قبض على ابن القاضي وعزله، وأنه وجه إليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخا من العلماء يكون من أهل مصر ومولودا بها يتولى القضاء ويقضي بالأحكام الشرعية، كما كانت الملوك المصرية يولون القضاء برأي العلماء، فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم إننا: جميعا نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي، فإنه إنسان غريب ومن أولاد الناس، وإن كان والده قد وافق كتخدا الباشا «مصطفى بك أمير الحج» في فعله فولده مقيم تحت أمانكم.»
فانظر كيف أهمل المشايخ الأفاضل المسئولون عن إقامة العدل وإرشاد الناس أمر مسألة القضاء التي فتح بابها عليهم نابوليون، واهتموا بادئ ذي بدء بأمر ابن القاضي وخلاصه! ذلك لأن الهيبة التركية ونفوذها متأصلان في نفوس القوم، ولم تكن جلسة الديوان هذه قاصرة على أعضائه كما يؤخذ ذلك من رواية الجبرتي عن وجود السيد السادات، فقد روى أنه كان حاضرا في المجلس وأغلظ القول للفرنساويين، ولم يذكر الجبرتي شهودا آخرين من العلماء والأعيان، ممن ليسوا أعضاء هذه الجلسة التي قصد فيها الفصل في مسألة القضاء الشرعي، ولكن يؤخذ من العريضة التي قدمها المجتمعون لنابوليون، والتي عثرنا على صورتها بالفرنسية في كتاب شرفيس، أنه حضر تلك الجلسة التاريخية، عدا السيد السادات، المشايخ الأمير الشيخ الحريره «كذا في الأصل وصوابه الحريري» والدسوقي الجوهري والسرسي والعريشي والعناني، وكثير من أعيان القاهرة وقد شدد السيد السادات في طلب العفو عن ابن القاضي وقال للمندوبين الفرنساويين الحاضرين «كيف تفعلون هذا وأنتم دائما تقولون إن الفرنساوية أحباب العثمانية، وهذا ابن القاضي من طرف العثماني فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم خصوصا عند العامة.»
قال الشيخ الجبرتي: «فلما ترجم هذا الكلام للوكيل الفرنساوي قال: لا بأس بالشفاعة، ولكن بعد تنفيذ أمر ساري عسكر في اختيار قاض خلافه.» ثم هددهم بقوله: «ولا تكونوا مخالفين يلحقكم الضرر بالمخالفة فامتثلوا، وعملوا القرعة فطلعت لأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي ثم كتبوا عرضحالا بصورة المجلس والشفاعة.»
فيظهر من هذه الرواية أنه لولا تهديد الفرنساويين للمشايخ لما قبلوا انتخاب واحد منهم من علماء مصر لتولي القضاء في الديار المصرية، ولفضلوا أن تنتقل تلك الوظيفة السامية من الوالد إلى ابنه، ولو كان الابن فتى غير عالم بالشرع الشريف، وذلك لمجرد أنه تركي وابن تركي! وهذه العاطفة جديرة بالنظر، وكان لها ولا يزال لها شأن مهم في أمور هذه الديار، ويجب أن تبقى دائما موضع اهتمام وعناية من يتم له الأمر على ضفاف وادي النيل.
ولما علم نابوليون بما دار في المجلس من الكلام والأخذ والرد حنق على السيد السادات واستدعاه إليه ولامه وعنفه، ولولا تلطف الشيخ المهدي وحيلته ونيله ثقة نابوليون وحسن ظنه، لاتسعت مسافة الخلف، ولربما صودر السيد السادات وعوقب كما وقع له بعد ذلك في مدة الجنرال كليبر.
وواجب علينا أن نقول في هذا الموقف أن السيد محمد أبا الأنوار شيخ السجادة الوفائية في ذلك الزمن، كان من ذوي الكفاية والجرأة وكان له من النفوذ والمنزلة في العالم المصري، ما جرأه مرارا وتكرارا على مقاومة النفوذ الفرنساوي والاحتفاظ بالكرامة الإسلامية، وكان على جانب عظيم من العلوم الدينية وتلقى دروسه على أكبر مشايخ ذلك العصر؛ قال عنه الجبرتي، وهو قليل المدح، إنه لما انتظم أمره أحسن سلوكه بشهامة وحكمة ورياسة وتؤدة، مع التباعد عن الأمور المخلة بالمروءة، ومع أنه كان صديقا للشيخ عبد الرحمن الجبرتي بدليل قوله عنه: «ولما قدمت الفرنساوية لم يتعرضوا له في شيء وراعوا جانبه وقبلوا شفاعاته وتردد إليه كبيره وأعاظمهم وعمل لهم الولائم وكنت أصاحبه في الذهاب إلى مساكنهم والتفرج على صنائعهم ونقوشهم وتصاويرهم وغرائبهم» ... إلخ ... فإنه لم يخله من الانتقاد واللذع اللذين كان يميل إليهما الجبرتي بطبعه، وكانا سببا في نكبته في آخر عمره، فوصف الشيخ السادات بالشره في حب المال، وبالكبرياء والدعاوى الكاذبة، فمن قوله عنه، إنه ترفع على العلماء والأقران وصار يلبس قلووقا بعمامة خضراء، متشبها بالأكابر من الأمراء، وبعدا عن التشبه بالمتعممين والمقرئين والفقهاء، ولما طالت أيامه، وماتت أقرانه، الذين كان يستحيي منهم ويهلبهم، غالى في دعواه وصار في داره كبيت حاكم الشرطة يضرب ويجلد، ومدحوه على منبر الخطابة في صلاة الجمعة في زاويتهم المعروفة أيام الموالد، حتى إن الجبرتي سمع قائلا يقول بعد الصلاة لم يبق على الخطيب إلا أن يقول: اركعوا واسجدوا واعبدوا الشيخ السادات، إلى غير ذلك من الصفات التي حفظ بها هيبة ذلك البيت القديم، وألبسه بها هالة من المجد والوقار، ولكن خلطهم لأنسابهم، وامتزاج دمائهم بأبناء السراي من النسوة الرقيقات من الجراكس والأرمن والأروام، أدخل في خلفهم بذور الفساد والانحلال، فانقرض ذلك المجد وهوى ذلك الجلال!
وقلد الشيخ أحمد العريشي قضاء مصر، ولم يذكر لنا الجبرتي ولا سواه صورة المكاتبة التي بعث به المشايخ يرجون العفو والإفراج عن ابن القاضي، وقد رأيت صورتها باللغة الفرنسية فيما نقله كرستبان شيرفيس في كتابه «نابوليون والإسلام» وخلاصة تلك العريضة أن أعضاء الديوان قد انضم إليهم في جلسة خصوصية المشايخ السادات ، والأمير، والحريري، والدسوقي، والجوهري، والسرسي، والعريشي، والعناني، ,كثيرون من أعيان المدينة قد اختاروا بالاقتراع بناء على طلب الجنرال بونابرته الشيخ أحمد العريشي لتولي قضاء مصر مكان ابن القاضي المعزول، وأن أولئك المجتمعين من أعضاء الديوان والعلماء والأعيان يرجون بونابرته في الصفح أو الإفراج عن ابن القاضي الذي لم تكن له علاقة بعصيان أبيه وانضمامه إلى أمير الحج، ثم ذكروا له أن الأهالي تولاهم الكدر والحزن على ما أصاب القاضي وولده، وأن أمه وجدته وأخته في غم شديد واضطراب عظيم قلقا عليه، ومما قالوه أيضا: إنه لو عين للبلد كل يوم قاض جديد فإنه لا يرتاح لهم بال، ما دام الذي كان متوليا للقضاء معتقلا مسجونا، وإن أعضاء الديوان يتكلفون بابن القاضي ويضمنون حسن سيره وولاءه للحكومة، وذكروا له أن واجبهم هو الذي قضى عليهم بهذا الطلب لكي يوقفوا بونابرته على عواطف الأمة وشعورها، إزاء ذلك الحادث، ودعوا له بطول العمر والسلامة! فلما وصل هذا الخطاب إلى نابوليون أصدر أمره بإعداد حفلة لتولية الشيخ العريشي قضاء مصر، وخلع عليه خلعة ثمينة وسار في موكب كبير إلى دار المحكمة الكبرى بين القصرين، ثم أصدر أمره بإطلاق سراح ابن القاضي، وكان الرجل الطيب الوجيه السيد أحمد المحروقي كبير تجار مصر قد أخذ أسرة القاضي إلى داره تطمينا لخواطرهم، وانتهى ذلك الحادث الذي أظهر فيه المشايخ والأعيان تضامنا يحمدون عليه.
Bog aan la aqoon