السكير
إنه لسكير عجيب لا يشبه غيره من مدمني الخمور؛ لأن الخمر لا تبعث في نفسه الغبطة والسرور، كما تفعله عادة في نفوس غيره من السكيرين، بل تثير في نفسه الحسرة والندم، فيغدو يتوجع وينتحب ودمعه منهمر على خديه كالطفل المذنب.
تعرفت على هذا الرجل بعد هذه الحرب الأخيرة وقد كنت مديرا لمدرسة أهلية، وكانت صلة الوصل بيني وبينه، ابنته التي كانت تتعلم في مدرستي.
كان الرجل والدا ... والدا رحيما إذ كانت له طفلة جميلة في الثامن من عمرها، كأنها ملاك يفيض وجهها الصبوح بأنوار الطهر والبراءة، يحبها والداها حبا عنيفا طاغيا، يحبها إلى العبادة، ولهذا كانت سبب سعادته وسبب شقائه في نفس الوقت ...
كانت تلك الطفلة - واسمها حورية - سبب سعادة لوالدها؛ لأنه كان يعيش لها وحدها، يعيش من أجلها، يحيى لها وبها، لا يشاركها في قلبه وعواطفه شريك لا بعيد ولا قريب، فهي كل آماله وأمانيه في الحياة ...
فقدت حورية والدتها وهي صبية في المهد، فقام والدها مقام الأم والأب، فأحاطها بحبه وعطفه وحنوه، واحتلت البنية كل جزء من قلبه وروحه فأصبحت تشغل كل حياته، يسر لابتسامتها، ويتعذب لأقل ألم يصيبها، كانت تملأ دنياه بالسعادة والسرور ... يقودها كل يوم بنفسه إلى المدرسة ويعود بها عقب الدرس صباحا ومساء في مواعيد محدودة دقيقة لا يتخلف عنها أبدا ولا يعوقه عائق مهما كان جسيما عن مرافقتها في غدوها ورواحها.
كان هذا الوالد الرحيم المدله بحب ابنته سكيرا مدمنا على شرب الخمور، لا يكاد يفارق عمله مساء كل يوم حتى تقوده رجلاه إلى أقرب خمارة فيعب من الخمر إلى أن تمتلئ بطنه ويغيب عقله، ويفتكر حينئذ بنته وهي في مدرستها تنتظر قدومه ليعود بها إلى المنزل، فيثور ضميره مؤنبا ويستعظم جرمه ويغدو وهو تحت تأثير الخمر ينتحب كالطفل الصغير ...
كيف يقابل ابنته المحبوبة وملاكه الطاهر وهو على ما هو عليه من الخزي والعار؟
شاهدته لأول مرة وقد كان جالسا على مقربة من مديري إدارة المدرسة، جالسا في هدوء وسكون، وعيناه تذرفان الدموع، فأدهشني أمره، وكأنه انتبه لما أنا فيه من الدهشة والحيرة، فابتدرني قائلا: أنا والد حورية ... قلت: نعم مرحبا بك. قال وهو مسترسل في البكاء: هل يجوز لمن كانت له ابنة مثل حورية تدرس العلم الشريف، أن يشرب الخمر؟
حرت في الجواب، وعلمت أني أمام رجل مخمور ... ولم ينتظر جوابي بل استرسل يتكلم بصوت متقطع يشوبه البكاء والنحيب: كيف أقابلها؟ ... هل أجرؤ على رؤيتها ومقابلتها وأنا على هذه الحالة اللعينة؟ ... لا ... لا أستطيع أن ألمس يدها الطاهرة بيدي النجسة ... ما أشقاني وما أتعسني ... إني لا أقوى على تحمل نظرتها الطاهرة المقدسة، وأنا كالخنزير تفوح رائحة الخمور من فمي ...
Bog aan la aqoon