لقد كتب علماء الأخلاق كلاما مطولا في موضوع الأم، فذهبت بعض أقوالهم مثلا وبقي بعضها في المجلدات الضخمة التي لا تصل إليها أيدي الكل، فاتخذها رهط الكتاب موردا للانتحال مرددين في الألفة السورية ما هو فضلات المفكرين وكسرات تتساقط عن موائد المنشئين.
إن مثل هذه الأقوال المجموعة نثرا من كل مجموع لا تضمها قوة موحدة، ولا يدفعها إلى الاستنتاج منطق صحيح، لهي كالأرياح العاصفة من كل جهة تتلاطم قواها على المحجة فتحطمها ولا تديرها، هذه الأقوال التي تخاطب العقل تارة وتلمس القلب أخرى، تقع على شعور الأم فتزيده همودا إذا كان هامدا وتدخل إليه الضجر إذا كان منتبها.
أيتها الأم لا تخافي، أنا لا أكتب لك فصلا من هذه الفصول المملة بالمواعظ المتناقضة، إن ما ستقرئينه ليس كتابة فيلسوف ولا قصيدة شاعر، ليس ذلك مواد شريعة ولا صوت كاهن ينادي على المذبح، إن ما سأكتبه لهو أعمق من صوت الفيلسوف، هو أقوى من قوة الشريعة وأعلى من هتاف الكاهن، هو كلام لولد صغير بكى فسمعت بكاءه يدوي في الألفة كالرعد، وتساقطت دموعه فالتقطتها برأس هذا القلم الذي تعود أن يغمس في الدموع ليجفف الأهداب المبللة من ضلال الإنسان.
رأيت ولدا بلا أم يردد مع الأنين ما لم يكتبه فيلسوف من واجبات الأم، فأصغيت إليه طويلا حتى تبين لي أنني لا أبلغ نصف فصاحته مهما تأملت وكتبت، فعرفت أن المفتكر لا يمكنه أن ينطق بكلمة تصور الأشجان كالكلمة التي تخرج من قلب المضروب نفسه، مهما بالغ المفكر في تحديد واجبات الأم، فلا يمكنه أن يحددها كالطفل الذي يشعر بوجدان لم تكيفه آراء البشر وأضاليلهم.
فيا أيتها الأم ويا أيتها الغادة السائرة بحكم الله إلى الأمومة، طالعي بإمعان هذه الرواية الصغيرة التي أنقلها لك كما وردت لي بعباراتها الساذجة، وأقوالها التي تعلو بضعفها على كل قوة، اتركي فلسفة الأخلاقيين ولغط الكتاب المختلفين على كيفية تربيتك، واسمعي صوت الطفل فهو صوت من الله، تعلمي منه واجباتك فقد كنت مثله طفلة وشعرت مثله بتلك المحبة البنوية التي تلامس العبادة، واجتهدي ألا تدعي ابنك يعبد بك صنما مدنسا لئلا يتعود الركوع أمام باعال والسجود أمام الصنم الذهبي ...
اعتراف ولد
كان لي أم أجمل من كل الأمهات ومن كل النساء، أذكرها وهي محنية فوق سريري تتجلى لعيني بأغرب جمالها الساحر، فتلقي على جبيني قبلة تترك بعدها عبيرا سماويا يتضوع طويلا بين ستائر مهدي، فكنت أتبسم لمرآها وأنظر إليها كنظري لشعاع الشمس أو لتموج الألوان السبعة في الأفق، كنت أفرح لقربها بكل القوى السامية التي أعطاها الله لنا نحن الأطفال.
كنت أحب أبي وأحب مرضعتي، أما أمي فكنت أعبدها، وما تفردت وحدي بالإعجاب بها، فإن كل ناظر إليها كان يشعر بعظمة جمالها، وكم من مرة سمعت الناس يقولون وهم يتأملون بملامح وجهي: لا عجب أن يكون هذا الصبي جميلا فإن أمه إلهة الجمال، وما أشد ما كان فرحي حينما صرت أخرج معها إلى المدينة لابسا سروالي الأحمر القصير، متمسكا بيدها وهي تخطر كالغزال بل كروح لا تمس الأرض رجلاها فتستأسر الأبصار، وأسمع من كل فم كلمات الإعجاب، حينئذ كنت أشعر بحركة غريبة في فؤادي الصغير وأنادي بصوت عال: يا أماه! يا أماه!
فتجيبني: مالك يا ولدي.
فأسكت، وما كنت أنادي هكذا إلا ليعلم الكل أن هذه هي أمي الجميلة.
Bog aan la aqoon