Ku Wajahan Falsafad Sayniska
نحو فلسفة علمية
Noocyada
من الكيف إلى الكم
1
الجانب الكيفي من الشيء هو ذلك الذي تنطبع به حواسنا انطباعا مباشرا؛ فبياض هذه الورقة التي أمامي «كيف» لأنه صفة أدركها بحاستي إدراكا مباشرا، والألم الذي أحسه في معدتي «كيف»، وكذلك طعم الطعام وأريج الزهرة؛ كل هذه «كيفيات» لأنها من الأشياء جوانبها المدركة بالحس إدراكا مباشرا. وحين يتحدث المتحدث عن شيء من ناحيته الكيفية، فإنما يتحدث عنه من حيث وقعه على حواسه، لكن ما هكذا يكون الحديث عن الشيء من ناحية كميته ومقداره، فها هنا لا يكون الوقع الحسي هو مدار الحديث، فما أبعد الفرق بين أن أنظر بعيني إلى الطيف الشمسي وأرى ألوانه من الأحمر في طرف إلى البنفسجي في طرف آخر، وبين أن أنظر إلى قائمة متدرجة من أرقام هي الأرقام الدالة على أطوال الموجات الضوئية في الألوان المختلفة؛ فألوان الطيف كما ينطبع بها بصري «كيف»، وأما أطوال موجات الضوء التي تحدث تلك الألوان في حاسة البصر فهي «كم»، وكلا الكيف والكم هنا طرفان لظاهرة واحدة؛ طرف ذاتي خاص بصاحب الإحساس، وطرف موضوعي خارج عن حاسة الرائي الفرد، ومعروض أمام كل راء آخر على حد سواء، فلو نظر شخصان إلى بقعة حمراء مثلا، فقد يختلف إدراكهما لها حسب اختلافهما في حاسة البصر عند كل منهما، وهكذا قد يختلفان في «الكيف»، لكنهما لا يختلفان - إلا في حدود ضئيلة - إذا عمدا معا إلى قياس المسافة بين نقطتين؛ أي قياس طول الموجة الضوئية التي منها ينشأ إحساس الرائي باللون الأحمر؛ إنهما لا يختلفان هنا لأن المدار عندئذ لا يكون الحاسة الخاصة وما تنطبع به، بل يكون العلاقة بين المسافة المقيسة والوحدة القياسية التي يقيسان بها، وإدراك «العلاقة» بين شيئين لا يكون موضع اختلاف بالقدر الذي يكون إدراكنا للشيئين نفسيهما موضع اختلاف بين المدركين.
إنه إذا وضع شخصان أصابعهما في ماء ساخن، وأحسا الحرارة بحاسة اللمس عند كل منهما، كان ذلك عندهما هو إدراك الجانب الكيفي من الحرارة، واتفاقهما عندئذ على مقدار حرارة الماء إنما يكون على وجه التقريب لا على وجه الدقة، بل إنهما قد يختلفان بحيث يجد أحدهما حرارة الماء محتملة على أصابعه، بينما يجدها الآخر أحر من أن تحتملها الأصابع، لكن هذا الاختلاف يزول، ويقرب بينهما الاتفاق من درجة التطابق الكامل؛ إذ هما عمدا في إدراك الحرارة إلى جانبها الكمي لا الكيفي، فقاما بقياسها بمقياس يرتفع منه عمود من الزئبق حتى يحاذي بقمته خطا مرسوما ذا رقم معلوم، اصطلح على أن يكون دالا على مقدار الحرارة في الجسم المقيسة حرارته، وكذلك إذا حمل شخصان حملا معينا على التعاقب، فإنهما يحسان ثقله إحساسا عضليا مباشرا؛ ومن ثم يكون إدراكهما لذلك الثقل إدراكا كيفيا، ولا يكون بينهما اتفاق عليه إلا على سبيل التقريب، بل هما قد يختلفان بحيث يستخفه واحد ويستثقله الآخر. أما إذا عمدا إلى إدراك الثقل إدراكا كميا لا كيفيا، بأن يضعا الجسم المقيس على ميزان يبين بإبرته المشيرة إلى خط مرسوم على لوحته كم يكون ذلك الثقل المراد قياسه على وجه الدقة، فعندئذ ينحسم الخلاف بين الشخصين حول وزن الجسم، حتى وإن ظل كل منهما على إدراكه الكيفي الأول.
هكذا يكون الفرق بعيدا بين إدراك الناس للأشياء من جوانبها الكيفية وإدراكهم لها من جوانبها الكمية؛ فالظاهرة التي ندركها إدراكا كميا هي هي بعينها الظاهرة التي ندركها بالحواس إدراكا كيفيا، لكن الإدراكين يكونان من وجهتين مختلفتين للنظر؛ فالضوء الذي أراه بعيني ساطعا على الأجسام هو نفسه الضوء الذي يقيس عالم الطبيعة سرعته وزوايا سقوطه وزوايا انعكاسه، لكنني في إدراكي المباشر للضوء لا أرى سرعة ولا زوايا، بل إني لا أرى «شعاعا» من الضوء كالشعاع الذي يقول علماء الطبيعة إنهم يقيسون سرعة انتقاله وزاوية سقوطه وانكساره؛ لأن ما أراه إذ أفتح عيني على الأشياء المحيطة بي حين يكون هنالك ضوء هو مساحات مضيئة، لا خيوط كالخيوط الرفيعة التي يستحدثها العلماء في معاملهم ليجروا عليها عمليات القياس. أعود فأقول إن الظاهرة التي ندركها إدراكا كيفيا من وجهة نظر، هي هي نفسها التي ندركها إدراكا كميا من وجهة نظر أخرى؛ فليس هنالك عالمان أو طبيعتان، إحداهما للحواس تدرك كيفياتها، والأخرى للعلماء يقيسونها ليضبطوا كمياتها، بل إن العالم واحد والطبيعة واحدة، نراها من هنا فإذا هي «كيف» ونراها من هناك فإذا هي «كم».
وواضح أن الإنسان يبدأ علمه بالأشياء بإدراك كيفياتها، ثم لا يأتي إدراكه لكمياتها إلا في مرحلة متأخرة؛ فالطفل يدرك حرارة الجسم الحار قبل أن يعرف أن هذه الحرارة تقاس بالدرجات، ويدرك ثقل الأجسام الثقيلة قبل أن يعرف أن هذا الثقل يقاس مقداره بميزان، ويدرك اللون الأخضر في الشجرة والأصفر في البرتقالة قبل أن يعرف أن الألوان كلها إنما هي موجات من الضوء تختلف أطوالها فيختلف نوعها تبعا لذلك، وهكذا. وحتى حين يبدأ الإنسان في إدراك الكميات، فإن ذلك الإدراك عندئذ يكون في مرحلة تقريبية غامضة، فقد يعلم أن هذا الحجر «أثقل» من ذلك، وأن الأشجار هنا «أكثر» من الأشجار هناك، وأن طعامه بالأمس كان «أقل» من طعامه اليوم، وأن الحرارة خارج كهفه «أكبر» منها داخله؛ هذه كلها إدراكات كمية، ولكن ينقصها الضبط والدقة.
وواضح كذلك أن الإنسان كلما ازداد بالأشياء علما، ازداد معرفة بالطرائق التي يمكن أن يستخدمها ليضبط المقادير الكمية ضبطا دقيقا بدرجات يصطنعها لذلك، فلا يعود يقنعه أن يقول إن هذا الجسم «أثقل» من ذلك، بل يريد أن يعلم الفرق بين الثقلين بمقياس دقيق، ولا يقنعه أن يقول عن الحرارة خارج الكهف إنها «أكبر» منها داخله، بل يريد أن يعلم كم هي على وجه الدقة هنا وكم هي هناك.
وقد ألفنا قياس بعض الظواهر إلفا أنسانا العبقرية العلمية التي جعلت ذلك القياس ممكنا، لكن حلل حالة واحدة من حالات القياس الكمي تحليلا سريعا لتدرك طبيعة الموقف، وخذ قياس الحرارة مثلا؛ إنك تضع الترمومتر ملاصقا للجسم المراد قياس حرارته، فيرتفع فيه عمود الزئبق، فتقرأ الرقم الذي يبلغه العمود في ارتفاعه، وتقول عنه إنه درجة الحرارة المراد قياسها، ظانا أن الأمر طبيعي فلا غرابة فيه ولا إشكال، وفاتك - أولا - أننا نحن الذين وضعنا هذه الأرقام على الأنبوبة الزجاجية، وأننا نحن الذين اخترنا أن يكون الصفر في ناحية والمائة في ناحية أخرى، وأن نقسم ما بينهما إلى درجات متساوية، وأن الذي أغرانا بذلك ظاهرتان طبيعيتان اخترناهما جزافا لتكون إحداهما مقابلة للصفر على مقياسنا، وتكون الأخرى مقابلة للمائة على مقياسنا، وهاتان الظاهرتان هما تجمد الماء من جهة وغليانه على مستوى سطح البحر من جهة أخرى، فكأنما قلنا لأنفسنا: تعالوا نتخذ من هاتين الظاهرتين معيارا نقيس به الحرارة في سائر الأجسام، تماما كما يقول الناس لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، تعالوا نتخذ ما عندنا من الذهب معيارا نقيس به قيم سائر الأشياء المعروضة للبيع والشراء، لكن كما أن اختيار الذهب معيارا قد كان جزافا، وكان يمكن - وقد أمكن فعلا - أن نتخذ أساسا غيره في تقييم الأشياء في دنيا البيع والشراء، فكذلك كان اختيارنا لظاهرتين طبيعيتين من بين ألوف الألوف من الظواهر، لتكونا طرفين على مقياس نصطنعه لنقابل به بين سائر الأشياء من حيث مقدار حرارتها، أمرا جزافا، اخترناه لسهولته لا لأنه أمر لا محيص عنه؛ ثم فاتك - ثانيا - أننا حتى بعد اختيارنا للظاهرتين اللتين نجعلهما طرفين للقياس، فلا زلنا بحاجة إلى اختيار جزاف آخر؛ فأي مادة من بين مواد الطبيعة الكثيرة أختار لأجعل تأثرها بالحرارة معيارا لتأثر سواها؟ أي مادة أختار لألامس بينها وبين الماء المتجمد، ثم ألامس بينها وبين الماء الذي يغلي عند مستوى البحر، بحيث أرى إلى أي حد تنكمش في الحالة الأولى وإلى أي حد تتمدد في الحالة الثانية ، فأجعل الحالة الأولى صفرا والحالة الثانية مائة؟! أأضع قطعة من النحاس مثلا؟ إنها عندئذ تنكمش وتتمدد بمقادير يتعذر على العين رؤيتها في يسر؛ إذن فلأبحث عن مادة يسهل انكماشها وتمددها بدرجة ملحوظة للعين، وسرعان ما وقعت على الزئبق؛ فلو وضعت من الزئبق قطرة في أنبوبة ضيقة من زجاج، ثم لامست بين هذه الأنبوبة وبين أي شيء آخر، وكان هنالك فرق بين حرارة الزئبق وحرارة ذلك الشيء، فسرعان ما تؤثر حرارة هذا الجسم في الزئبق تمددا أو انكماشا تأثيرا تسهل رؤيته؛ فليس ثمة - إذن - ما يحتم علينا أن يكون الصفر والمائة مقابلين للماء في تجمده وغليانه، ولا ما يحتم علينا أن يكون الزئبق هو المادة التي نجعل مقدار تمددها بالحرارة هو المقياس الذي نقيس به درجة الحرارة في سائر الأجسام، إنما الأمر كله اختيار جزاف وجدناه مفيدا فاصطنعناه.
أرجو من القارئ أن يلاحظ بأنه إذ يضع مقياس الحرارة في الماء الساخن فيتمدد عمود الزئبق في المقياس، فإنما هو إزاء جسمين، زئبق وماء، كلاهما على حرارة معينة، وما اختيارنا أن نجعل امتداد إحدى المادتين وسيلة نقرأ بها كمية الحرارة في المادة الأخرى إلا قرار منا لا أكثر ولا أقل، وكان يمكننا أن نتخذ قرارا آخر، كأن نقرر مثلا أن نضع قطعة من الحجر الهش في الماء الساخن لننظر متى يتفتت، ثم نجعل طول المدة اللازمة لتفتته دالة على مقدار حرارة الماء؛ كان يمكن أن نقرر أية وسيلة شئنا، فإذا كنا قد قررنا أن نجعل تمدد عمود الزئبق مقياسنا، فما ذاك إلا لسهولة استخدام هذا المقياس؛ وقدر لنفسك بعد ذلك مدى العبقرية العلمية التي كان لا بد من وجودها عند من اصطنع هذه الطريقة المعينة في قياس درجات الحرارة، فجاء الناس من بعده وأخذوا عنه طريقته، وراحوا يهذبونها ويزيدون من دقتها؛ ولولا الوقوع على مقياس كهذا لظل الناس حتى اليوم يقيسون حرارة الأجسام بلمسها، فيختلفون أو يتفقون ما شاء الله لهم من اختلاف أو اتفاق.
فهل يمكن للإنسان أن يصطنع لكل إدراك كيفي وسيلة يقيس بها الجانب الكمي قياسا يبين مدى التفاوت في الدرجة بيانا مضبوطا دقيقا؟ هل يمكن له أن يصطنع مقياسا يقيس به درجات «الشجاعة» ودرجات «الذكاء» ودرجات «الصدق» وغير ذلك كما يقيس درجات «الحرارة» ودرجات «الثقل»؟ وليلاحظ القارئ هنا أن قد جاء يوم، لا أقول يوما فيما قبل التاريخ، ولا يوما في العصور البدائية الأولى، بل هو يوم من عصور الفكر الزاهية الزاهرة، قد جاء يوم لم يكن فيه كبير فرق عند الفلاسفة اليونان بين الحرارة والبرودة وما بينهما من تضاد، وبين الشجاعة والجبن، والفضيلة والرذيلة، والذكاء والغباء؛ فكل هذه عندهم أضداد من أمثالها تتكون معارف الإنسان، فلم تكن «الحرارة» بأيسر قياسا كميا من «الشجاعة»؛ فلو رأينا العلم الطبيعي في تقدمه قد تناول بعض هذه المدركات دون بعضها الآخر، تناولها بالضبط الكمي الدقيق، بعد أن كانت مدركات كيفية تدرك بأضدادها، أفيكون محالا علينا أن نمد مجهودنا بحيث يشمل هذا الضبط الكمي سائر مدركاتنا الكيفية جميعا؟ أم كتب على بعضها أن تقف عند مرحلتها الكيفية لا تجاوزها، فتظل بين أيدينا موضع اختلاف لا ينحسم ونظل نقول عنها إنها مجال للبحث الفلسفي؟
Bog aan la aqoon