Ku Wajahan Falsafad Sayniska
نحو فلسفة علمية
Noocyada
كذلك قل في كل جملة تنبئ بنبأ عن الطبيعة حين تقارنها بجملة أخرى تذكر علاقة منطقية بين طرفين ولا تنبئ بشيء؛ فعندئذ لا يكون في الجملة الأولى ضرورة صدق، على حين تكون الجملة الثانية ضرورية الصدق لأنها لا تنبئ بشيء كما تنبئ الجملة الأولى؛ فقارن بين قولنا «الغاز يقل حجمه إذا زاد الضغط عليه»، وبين قولنا «إنه إذا صدق القول بأن الغاز يقل حجمه إذا زاد الضغط عليه، فلا بد أن يكون الغاز في هذه الأنبوبة قد قل حجمه حين ازداد الضغط عليه»؛ ففي الجملة الأولى يقرر المتكلم اطرادا معينا في ظواهر الطبيعة، يقرر اطرادا بين زيادة الضغط على الغاز وقلة حجمه، مستمدا ذلك من مشاهداته، لكن هنالك إمكان منطقي أن يكون قد أخطأ المشاهدة وتسجيلها؛ وإذن فلا ضرورة تحتم صدق هذا النبأ، ومن حق أي سامع أن يطالب المتكلم بإجراء تجربة تثبت صدق زعمه. أما في الجملة الثانية فالمتكلم لا يورط نفسه في إقرار حقيقة بعينها عن الطبيعة، بل يبني نتيجة على فرض، دون أن يدعي للفرض صدقا، فإذا صدق الفرض صدقت معه النتيجة؛ لأن النتيجة ليست سوى تكرار ما جاء في الفرض نفسه؛ وإذن فهي تحصيل حاصل؛ ومن ثم فهي ضرورية الصدق ما دامت مقدمتها قد فرض فيها الصدق.
وهذا بعينه هو الفرق بين أي قانون من قوانين الطبيعة التي تثبت فيها اطرادات الظواهر، وبين تطبيق ذلك القانون نفسه بعد ذلك على مواقف بعينها؛ ففي حالة القانون نفسه يكون العالم القائل بمثابة من ينبئ عن الطبيعة نبأ يروي به أن الظاهرة الفلانية مطردة الوقوع مع الظاهرة الفلانية بالنسبة الفلانية، ولكل سامع الحق في أن يطالب المتكلم بإجراء التجارب التي تثبت صدق النبأ؛ مما يدل على أن النبأ نفسه قابل لأن يكون باطلا؛ أما في حالة التطبيق فنحن بمثابة من يقول عندئذ إنه «إذا» كان القانون الفلاني صادقا، فسيحدث كذا وكذا في الموقف الفلاني، فها هنا تكون النتيجة ضرورية الصدق لأننا نرتبها على مقدمة فرضنا فيها الصدق.
هكذا يخطئ الفلاسفة العقليون حين ينقلون «الضرورة» و«الوجوب» من نتيجة القانون إلى القانون نفسه، مع أن الفرق المنطقي واضح بين القانون ونتيجته؛ فالأول تؤيده المشاهدة، وأما النتيجة فاستنباط منطقي صرف يصدق حتما ما دام القانون مسلما به؛ أرأيت - إذن - متى يجوز لنا ومتى لا يجوز أن نستعمل كلمة «لا بد» أو كلمة «لا مناص» أو كلمة «يجب» أو ما في معناها في السياق العلمي؟ إنه لا يجوز استعمالها ما دمنا في المرحلة الأولى التي هي مرحلة التعميم عن مشاهداتنا للطبيعة في قانون ما، بحيث نقول إن كل «أ» هي «ب» فلا وجوب هنا ولا ضرورة، بل هكذا شاهدنا «أ» و«ب» مقترنتين بغير تخلف، فعممنا هذا الاقتران في قانون، لكن الضرورة والوجوب وما إليهما يكون حين نستنبط من القانون - على فرض التسليم به - نتيجة ما، فإذا كانت كل أ هي ب، وهذه الحالة المعينة التي أنا بصددها هي أ؛ إذن فهذه الحالة التي أنا بصددها لا بد أن تكون ب؛ إذا كانت الحرارة تمدد الأجسام دائما، وهذه الحالة التي أنا بصددها الآن هي حالة جسم معرض لحرارة، فلا بد أن يكون هذا الجسم قد تمدد بفعل تلك الحرارة.
ضرورة الصدق في العلوم الطبيعية - إذن - لا تكون إلا في النتائج التطبيقية لا في المقدمات التي نستولدها هذه النتائج، ولكن ما أسرع ما نخطئ هنا فنظن أننا ما دمنا نقول عن النتيجة المعينة في الموقف المعين إنها «لا بد» أن تكون على النحو الفلاني، فكذلك نستطيع أن نقول «لا بد» هذه عن القانون نفسه الذي اتخذناه مقدمة سلمنا بصوابها ورحنا نستنبط منها النتائج التطبيقية. ألا ما أكثر ما نسمع من علماء الطبيعة أنفسهم ما يدل على نفورهم إذا ما أنبأناهم بأن قوانين الطبيعة «احتمالية» لا يقينية؛ وذلك لأنهم ينقلون «وجوب الصدق» من النتيجة إلى المقدمة، ينقلونه من التطبيق إلى القانون الذي نطبقه، وقد فات هؤلاء جميعا أن النتيجة المنطقية المستنبطة من أية مقدمات - صادقة أو غير صادقة - هي دائما ضرورية الصدق ما دام استنباطنا لها سليما؛ أي ما دمنا نكرر في النتيجة نفس الذي نقرره في المقدمات، لكن ما هكذا تكون المقدمات التي نستمدها من المشاهدات والتجارب، فلا استنباط هنا يكرر مقدمة في نتيجة، بل هنا وصف يصف وقد يصيب التصوير وقد يخطئ؛ فات هؤلاء جميعا أنني أستطيع من مقدمات كاذبة في ذاتها أن أستنتج نتيجة «لازمة» الصدق «إذا» سلمنا بالمقدمات جاهلين أو متجاهلين ما فيها من كذب، فلنا أن نقول مثلا: إذا كانت الجياد كلها من ذوات الجناح، وإذا كانت قطتي هذه جوادا؛ فهي إذن من ذوات الجناح. هذه نتيجة «ضرورية الصدق» بغير شك لأنها مترتبة منطقيا على مقدماتها، ولكن ما الحكم في المقدمات نفسها؟ قل هذا تماما في أي قانون طبيعي وتطبيقه، فإذا كانت أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة، وإذا كان هذا النافذ من غرفتي شعاعا من الضوء، فهو إذن يسير في خط مستقيم. هذه نتيجة «ضرورية الصدق» لأنها مستنبطة من مقدماتها، ولكن ما هكذا المقدمات نفسها؛ فكون أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة أو في خطوط منحنية أمر يحتاج إلى تجارب علمية تثبته أو تنفيه؛ أي إنه قول يحتمل فيه الصواب كما يحتمل فيه الخطأ.
4
إذا كان الاطراد الملحوظ بين ظواهر الطبيعة أمرا مرهونا بالخبرة وحدها، دون أن يكون هنالك ضرورة عملية توجب وقوعه هكذا وتحتم حدوثه على نحو ما يحدث، فما الذي يغري الفيلسوف العقلي أن يضيف إلى الأمر ما ليس فيه، فيضيف «ضرورة عقلية» حيث لا ضرورة، ويضيف «وجوبا» حيث لا وجوب؟ ما الذي يغريه أن يقول عن ظواهر الطبيعة إنها «لا بد» أن تقع على نحو ما هي واقعة وإنها «يجب» أن ترتبط على الصورة التي نراها مرتبطة عليها؟ إنه إذا رأي «أ» مطردة الوقوع دائما مع «ب» - كارتفاع الحرارة وتمدد الأجسام مثلا - فلماذا لا يقف عند حدود خبرته فيقول إن «أ» و«ب» مطردتان دائما في الوقوع، فلا يضيف من عنده «وجوبا» لم يقع له في خبرته تلك، بحيث يقول إن «أ» لا بد أن تتبعها «ب»؟
لعل ما يغري الفيلسوف العقلي بهذه الإضافة هو أن يلقي بزمام الكون إلى «عقل» يسيره كيف شاء؛ لأنه إذا كانت الظاهرتان المطردتان في تلازم الوقوع أمرا واجب الحدوث وضروري الصدق، كان لا بد لهذا الوجوب من موجب، ولهذه الضرورة من عقل سن لها السنن التي لا مندوحة عن السير بمقتضاها. وإذا شئت فعد في تاريخ الفكر إلى «نيوتن» من جهة و«كانت» من جهة أخرى؛ تر الأول قد جعل الأمر في قوانين الطبيعة حتما محتوما وضرورة عقلية لا مندوحة عن قيامها، فجاء الثاني يفلسف هذا الاتجاه العلمي نفسه فيسأل سؤاله المشهور: كيف أمكن لما يمليه العقل من ضرورات أن يكون هو نفسه ما يقع في عالم الطبيعة من حوادث؟ أو بعبارة يعرفها دارسو الفلسفة: كيف أمكن للقضية العلمية أن تكون قبلية وتركيبية في آن معا؟ إنه لا جناح على «كانت» أن يسأل سؤاله هذا وأن يحاول عنه الجواب؛ لأنه صدي يردد العلم الطبيعي السائد في عصره، وهو العلم كما خلفه نيوتن؛ فلم يكن معقولا أن يقول العلم شيئا عن الطبيعة وأن تقول الفلسفة في العصر نفسه شيئا آخر.
فإذا كانت الفلسفة صدى للعلم في العصر الواحد، كان علينا أن نضع نصب أعيننا علم الطبيعة في القرن العشرين إذا أردنا أن نفهم ما يقوله الفلاسفة المعاصرون في منطق القانون العلمي.
إنه من سوء الحظ أن تجتمع لكلمة «قانون» عدة معان مختلفة فيما بينها أشد اختلاف، فأدى ذلك إلى خلط في التفكير لا حد لمداه؛ فهنالك القانون الذي يسنه الحاكم لرعيته فيكون بمثابة أمر يصدره لهؤلاء حتى يرسم لهم ما يجوز فعله وما لا يجوز؛ فإذا شرع الحاكم - مثلا - ألا يزيد سعر الأقة من البرتقال عن خمسة قروش «وجب» على البائع ألا يجاوز هذا الحد الأقصى، ومعنى «الوجوب» هنا هو أن الحاكم قد أمر وعلى المحكوم أن يطيع. ولما كنا نستخدم كلمة «قانون» في الطبيعة وظواهرها، كما نستخدمها في الحاكم وأوامره لرعيته، نقلنا معنى «الوجوب» من هذا المجال الاجتماعي إلى ذلك المجال الطبيعي، فوقعنا في الخطأ؛ فنقول - مثلا - إن الماء على سفح الجبل لا بد أن ينحدر إلى أسفل، ثم نظن أن هنالك آمرا قد أمر وعلى الماء أن يطيع، كما يأمر الحاكم وعلى الرعية أن تصدع بالأمر؛ وبهذا نخلط بين معنيين لكلمة واحدة - كلمة «قانون» - كان يجب أن يكونا واضحين في اختلافهما البعيد؛ فالقانون في حالة الحاكم ورعيته «أمر»، والقانون في حالة الطبيعة وظواهرها «وصف»، فإن استخدمنا كلمة «الوجوب» في الحالتين كان ذلك أيضا بمعنيين مختلفين؛ فالقانون التشريعي «يجب» أن يطاع وإلا تعرض العاصي للعقاب، وأما حين نقول عن القانون الطبيعي إنه «يجب» أن يسري، وإن الظواهر «يجب» أن تسير على مقتضاه، كان معنى الكلمة هنا هو «هكذا تسير الأمور» كما لاحظناها، فلا آمر هناك ولا مأمور.
حين يصوغ عالم الطبيعة قانونا من قوانينه، يصف به اطراد الحدوث بنسبة معينة بين ظاهرتين أو أكثر، يكون بمثابة من يقول: «إذا حدث كذا فإن كذا يحدث دائما.» فقوله مثلا عن التيار الكهربائي إنه يسبب انحرافا في الإبرة المغناطيسية معناه أن المشاهدة قد دلت على أنه إذا كان هناك تيار كهربائي انحرفت الإبرة المغناطيسية بغير تخلف.
Bog aan la aqoon