Ku Wajahan Falsafad Sayniska
نحو فلسفة علمية
Noocyada
القسم الأول
أسس عامة
الفصل الأول
منطق جديد
1
لبثت الفلسفة أمدا طويلا وهي تقترن في الأذهان بنوع من العبارات يختلف عما ألف الناس في حياتهم العلمية وحياتهم اليومية على السواء؛ فلم يكن على الفيلسوف من حرج أن «يتأمل» بخالص فكره هذا الكون الذي نعيش فيه، بغية الوصول إلى «حقيقته»، غير مستند في ذلك إلى عين أو أذن، حتي إذا ما حدس الحقيقة المنشودة حدسا أخرجها للناس في طائفة من ألفاظ اللغة يسلكها في عبارات لغوية، كما يفعل سائر عباد الله حين ينطقون أو حين يكتبون ليصفوا خبراتهم، إلا أن سائر عباد الله يردونك - إذا شئت - إلى المصادر الحسية التي استقوا منها تلك الخبرة التي جاءوا يصفونها في عباراتهم، أما الفيلسوف فيأبى أن يكون ذلك شأنه؛ إنه يزعم لأقواله الصدق، فإذا ما أردت أن تتبين موضع الصدق فيها وسألته أين عساك أن ترى أو تسمع أو تلمس هذه الحقائق التي يزعمها لك مؤكدا صدقها، أجابك بأنه لا يستند إلى ما يستند إليه سائر الناس - ولا فرق هنا عند الفيلسوف بين عامة الناس وعلمائهم - لأنه ليس كهؤلاء يستمد أحكامه من خبرة حواسه، بل هو «فيلسوف» من شأنه أن «يتأمل» بالفكر الخالص ما يريد أن يتخذه موضوعا لتفكيره؛ ولذلك فهو يري ما يراه عن حقيقة الكون بعين بصيرته لا بعينيه المفتوحتين في جبهته. وما دام أمره كذلك فلا يجوز لك أن تطالبه بما تطالب به غيره من الناس؛ لأن أداته إلى المعرفة ليست كأدواتهم . وبعبارة موجزة، ليست الفلسفة - عند فلاسفة التأمل - علما يقوم على مشاهدة وتجريب حتى تخضع لما يخضع له العلم من طرائق الإثبات.
كلا، ولا يريد الفيلسوف التأملي لعباراته أن تخضع لتحليل يفكك أوصالها ويحلل خيوطها؛ لأنه في حقيقة أمره أقرب في تعبيره إلى لغة الشاعر منه إلى لغة العالم؛ فالعالم الطبيعي - مثلا - يرى ما يراه أولا، ثم يطلق على هذا الذي رآه اسما يتفق عليه مع زملائه العلماء؛ فهو يشاهد في الطبيعة صفة معينة أو صفات، ثم يختار لها - اختصارا - مصطلحا يدل عليها؛ ولذلك فهو على استعداد دائما أن تقف به عند أي مصطلح شئت لتسأله: علام أطلقت هذا المصطلح؟ فيحدد لك على وجه الدقة ما تستطيع أن ترجع إليه من كائنات الطبيعة مما قد يكون مسمى للمصطلح الذي تسأل عن معناه، أو هو يعرف الكلمة تعريفا من شأنه أن تستنتج منه النتائج التي إذا ما طابقت بينها وبين الواقع وجدتها صحيحة، أما الفيلسوف فشأنه غير هذا؛ لأنه يبدأ بلفظة معينة لم تسبقها مشاهدة، ثم يتورط في هذه اللفظة، فيأخذ في الحديث عنها حديثا يطول مداه أو يقصر، وليس هو على استعداد زميله العالم بأن يردك إلى أشياء الطبيعة المحسوسة لتلتمس بينها ما عساه أن يكون مسمى لتلك اللفظة التي جعلها مدار حديثه، أو ما عساه أن يكون ناتجا عن تعريفها؛ فالفيلسوف التأملي - مثل الشاعر وعلى خلاف العالم - يقول كلاما مرجع الصدق فيه إلى ما يدور في نفس المتكلم، لا ما يحدث على مسرح الطبيعة الخارجية من حوادث.
ها هنا نضع أصابعنا على فرق هام بين أقوال الفلاسفة وأقوال العلماء؛ فبينما الفلاسفة - وأعني فلاسفة التأمل - ينصرفون إلى بواطن نفوسهم ليقولوا ما يقولونه، يتجه العلماء إلى خارج نفوسهم إلى حيث الطبيعة وظواهرها ليقرروا عنها ما يقررون من قوانين، لكن إذا كان الأمر كذلك، فما بال أولئك الفلاسفة المتأملين في ذوات أنفسهم، يتوهمون أنهم إنما يصفون «الحقيقة» الكونية كما تقع فعلا؟ إن كان الفلاسفة والعلماء كلاهما يصفون العالم الواقع الحقيقي، فما الفرق بين وصف ووصف؟ وجوابنا عن هذا السؤال هو أن العلماء إذ يتحدثون عن ظواهر الطبيعة فإنما يتحدثون بلغة «القوانين العامة» التي هي نتيجة ما قد شهدوه أو أجروا عليه التجارب، وأما الفلاسفة فهم - على خلاف ذلك - يصفون العالم قياسا على ما رأوه في أنفسهم؛ فلئن كان منهج العلماء استقراء يتقصى الأمثلة الجزئية ليخلص منها إلى قانون عام يصف ظاهرة بعينها، فمنهج الفلاسفة التأمليين «تمثيل» - باصطلاح المناطقة - أي تشبيه العالم بالإنسان ثم الحكم على العالم بما نحكم به على الإنسان.
فإذا قلت إن الحرارة تمدد الأجسام، قلت بذلك علما؛ لأنني بمثابة من يقول إنه حيثما يتعرض جسم للحرارة فإنه يتمدد. هذا حكم عام استخلصناه من ملاحظاتنا وتجاربنا، ونحن على استعداد أن نثبته لمن يريد ذلك بالرجوع إلى ملاحظات وتجارب، ولا دخل هنا لحالاتنا النفسية في الأمر، فلنكن في حالة من النشوة أو في حالة من الأسى، لنكن في حالة من طمأنينة النفس أو اضطرابها، فلا نزال في كلتا الحالتين نلاحظ ونقرر أن الحرارة تمدد الأجسام.
وتعليل ظاهرة معينة تعليلا علميا معناه أن نطويها تحت حكم عام مما نعلم، فلماذا تهب الرياح على مصر من الشمال؟ تعليل ذلك هو انضواؤه تحت قانون الحرارة وتمدد الأجسام؛ فالهواء على أرض مصر تزيد حرارته، فيتمدد، فيخف، فيعلو، فتسنح الفرصة لهواء أكثر برودة أن يهب من جهة البحر ليحل مكانه؛ بهذا يتم التعليل في رأينا، ما دمنا قد نسبنا الظاهرة المراد تعليلها إلى قانون أعم منها.
Bog aan la aqoon