المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي غرقت في معرفته أفكار العلماء وتحيرت في إدراك ذاته أنظار الفهماء والكملاء والأدباء العقلاء وحسرت عن معرفة كماله عقول الأولياء وقصرت عن وصف هويته ألسنة الفضلاء وعجزت عن تحقيق ماهيته أذهان الأولياء فلم يحصل لأحد منهم غير الصفات والأسماء لا يشبهه شي ء في الأرض ولا في السماء رافع درجات العلماء إلى ذروة العلى وجاعلهم ورثة الأنبياء ومفضل مدادهم على دماء الشهداء أحمده حمدا يتجاوز عن العد والإحصاء ويرتفع عن التناهي والانقضاء وصلى الله على سيد الأنبياء محمد المصطفىو على عترته البررة الأصفياء الأئمة الأتقياء صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء. أما بعد فإن الله تعالى حيث حرم في كتابه العزيز كتمان آياته وحظر إخفاء براهينه ودلالاته فقال تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وقال تعالى إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار. وقال رسول الله ص من علم علما وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار تفضلا منه على بريته وطلبا لإدراجهم في رحمته فيرجع الجاهل عن زلله ويستوجب الثواب بعلمه وعمله. فحينئذ وجب على كل مجتهد وعارف إظهار ما أوجب الله إظهاره من الدين وكشف الحق وإرشاد الضالين لئلا يدخل تحت الملعونين على لسان رب العالمين وجميع الخلائق أجمعين بمقتضى الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية
Bogga 6
وقد قال رسول الله ص إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله
Bogga 7
ولما كان أبناء هذا الزمان ممن استغواهم الشيطان إلا الشاذ القليل الفائز بالتحصيل حتى أنكروا كثيرا من الضروريات وأخطئوا في معظم المحسوسات وجب بيان خطائهم لئلا يقتدي غيرهم بهم فتعم البلية جميع الخلق ويتركون نهج الصدق. وقد وضعنا هذا الكتاب الموسوم بنهج الحق وكشف الصدق طالبين فيه الاختصار وترك الإكثار بل اقتصرنا فيه على مسائل ظاهرة معدودة ومطالب واضحة محدودة وأوضحت فيه لطائفة المقلدين من طوائف المخالفين إنكار رؤسائهم ومقلديهم القضايا البديهة والمكابرة في المشاهدات الحسية ودخولهم تحت فرق السوفسطائية وارتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل وروية لعلمي بأن المنصف منهم إذا وقف على مذهب من يقلده تبرأ منه وحاد عنه وعرف أنه ارتكب الخطأ والزلل وخالف الحق في القول والعمل فإن اعتمدوا الإنصاف وتركوا المعاندة والخلاف وراجعوا أذهانهم لصحيحة وما تقتضيه جودة القريحة ورفضوا تقليد الآباء والاعتماد على أقوال الرؤساء الذين طلبوا اللذة العاجلة وأهملوا أحوال الآجلة حازوا القسط والدنو من الإخلاص وحصلوا بالنصيب الأسنى من النجاة والخلاص وإن أبوا إلا استمرارا على التقليد فالويل لهم من نار الوعيد وصدق عليهم قوله تعالى ?إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب?. وإنما وضعنا هذا الكتاب خشية لله ورجاء لثوابه وطلبا للخلاص من أليم عقابه بكتمان الحق وترك إرشاد الخلق وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض الباقية دولته إلى يوم النشر والعرض سلطان السلاطين وخاقان الخواقين مالك رقاب العباد وحاكمهم وحافظ أهل البلاد وراحمهم المظفر على جميع الأعداء المنصور من إله السماء المؤيد بالنفس القدسية و الرئاسة الملكية الواصل بفكره العالي إلى أسنى مراتب العلى البالغ بحدسه الصائب إلى معرفة الشهب الثواقب غياث الملة والحق والدين أولجايتو خدا بنده محمد خلد الله ملكه إلى يوم الدين وقرن دولته بالبقاء والنصر والتمكين وجعلت ثواب هذا الكتاب واصلا إليه أعاد الله تعالى بركاته عليه بمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين وقد اشتمل هذا الكتاب على مسائل
المسألة الأولى في الإدراك وفيه مباحث
Bogga 8
البحث الأول المحسوسات أصل الاعتقادات كما كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها على ما يأتي وبه تعرف الأشياء وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة وجب البدأة به فلهذا قدمناه. اعلم أن الله تعالى خلق النفس الإنسانية في مبدإ الفطرة خالية عن جميع العلوم بالضرورة قابلة لها بالضرورة وذلك مشاهد في حال الأطفال ثم إن الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك وهي القوى الحساسة فيحس الطفل في أول ولادته بحس لمس ما يدركه من الملموسات ويميز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدريج بين أبويه وغيرهما وكذا يتدرج في الطعوم وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلق بتلك الآلات ثم يزداد تفطنه فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية الأمور الكلية من المشاركة والمباينة ويعقل الأمور الكلية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية ثم إذا استكمل الاستدلال وتفطن بمواضع الجدال أدرك بواسطة العلوم الضرورية العلومالكسبية فقد ظهر من هذا أن العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية والعلوم الضرورية الكلية فرع على المحسوسات الجزئية فالمحسوسات إذن هي أصول الاعتقادات ولا يصح الفرع إلا بعد صحة أصله فالطعن في الأصل طعن في الفرع. وجماعة الأشاعرة الذين هم اليوم كل الجمهور من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلا اليسير من فقهاء ما وراء النهر أنكروا قضايا محسوسة على ما يأتي بيانه فلزمهم إنكار المعقولات الكلية التي هي فرع المحسوسات ويلزمهم إنكار الكسبيات وذلك هو عين السفسطة
البحث الثاني في شرائط الرؤية
أطبق العقلاء بأسرهم عدا الأشاعرة على أن الرؤية مشروطة بأمور ثمانية :
الأول سلامة الحاسة.
الثاني المقابلة أو حكمها في الأعراض والصور في المرايا فلا تبصر شيئا لا يكون مقابلا ولا في حكم المقابل.
الثالث عدم القرب المفرط فإن الجسم لو التسق بالعين لم يمكن رؤيته.
الرابع عدم البعد المفرط فإن البعد إذا أفرط لم يمكن الرؤية.
Bogga 9
الخامس عدم الحجاب فإنه مع وجود الحجاب بين الرائي والمرئي لا يمكن الرؤية.
السادس عدم الشفافية فإن الجسم الشفاف الذي لا لون له كالهواء لا يمكن رؤيته.
السابع تعمد الرائي للرؤية.
الثامن وقوع الضوء عليه فإن الجسم الملون لا يشاهد في الظلمة وحكموا بذلك حكما ضروريا لا يرتابون فيه. وخالف الأشاعرة في ذلك جميع العقلاء من المتكلمين والفلاسفة ولم يجعلوا للرؤية شرطا من هذه الشرائط وهو مكابرة محضة لا يشك فيها عاقل
البحث الثالث في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط
أجمع العقلاء كافة عدا الأشاعرة على ذلك للضرورة القاضية به فإن عاقلا من العقلاء لا يشك في حصول الرؤية عند استجماع شرائطها. وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك وارتكبوا السفسطة فيه وجوزوا أن يكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة من الأرض إلى عنان السماء محيطة بنا من جميع الجوانب ملاسقة لنا تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ظاهرة غاية الظهور وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ولا نشاهدها ولا نبصرها ولا شيئا منها البتة. وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض بحيث يدعج ]يتزعزع[ منها كل أحد يسمعها أشد ما يكون من الأصوات وحواسنا سليمة ولا حجاب بيننا ولا بعد البتة بل هي في غاية القرب منا ولا نسمعها ولا نحس بها أصلا وكذا إذا لمس أحد بباطن كفه حديدة محمية بالنار حتى تبيض ولا يحس بحرارتها بل يرمى في تنور أذيب فيه الرصاص أو الزيت وهو لا يشاهد التنور ولا الرصاص المذاب ولا يدرك حرارته وتنفصل أعضاؤه ولا يحس بالآلام في جسمه. ولا شك أن هذا هو عين السفسطة والضرورة تقتضي فساده ومن شك في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات عندنا
Bogga 10
البحث الرابع في امتناع الإدراك عند فقد الشرائط والأشاعرة خالفوا جميع العقلاء في ذلك وجوزوا الإدراك مع فقد جميع الشرائط فجوزوا في الأعمى إذا كان في المشرق أن يشاهد ويبصر النملة السوداء الصغيرة على الصخرة السوداء في طرف المغرب في الليل المظلم وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد وبينهما حجب جميع الجبال والحيطان. ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت يسمع وهو في طرف المغرب وكفى من اعتقد ذلك نقصا ومكابرة للضرورة ودخولا في السفسطة هذا اعتقادهم وكيف من يجوز لعاقل أن يقلد من كان هذا اعتقاده. وما أعجب حالهم يمنعون من مشاهدة أعظم الأجسام قدرا وأشدها لونا وإشراقا وأقربها إلينا مع ارتفاع الموانع وحصول الشرائط ومن سماع الأصوات الهائلة القريبة ويجوزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلمة الشديدة وبينهما غاية البعد وكذا في السماع فهل بلغ أحد من السوفسطائية في إنكارهم المحسوسات إلى هذه الغاية ووصل إلى هذه النهاية. مع أن جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة حيث جوزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان حال خروجه أناسا فضلاء مدققين في العلوم حال الغيبة وهؤلاء جوزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ولا يشاهدون فهم أبلغ في اسفسطة من أولئك. فلينظر العاقل المنصف المقلد لهم هل يجوز له أن يقلد مثل هؤلاء القوم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم أم لا فإن جوز ذلك لنفسه بعد تعقل ذلك وتحصيله فقد خلص المقلد من إثمه وباء هو بالإثم نعوذ بالله من زوال الأقدام. وقال بعض الفضلاء ونعم ما قال كل عاقل جرب الأمور فإنه لا يشك في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدة مديدة حتى تنفصل أعضاؤه ومحال أن يكون أهل بغداد على كثرتهم وصحة حواسهم يجوز عليهم جيش عظيم ويقتلون وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ويرتفع الريح وتشتد الأصوات ولا يشاهد ذلك أحد منهم ولا يسمعه ومحال أن يرفع أهل الأرض بأجمعهم أبصارهم إلى السماء ولا يشاهدونها ومحال أن يكون في السماء ألف شمس كل واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ولا يشاهدونها ومحال أن يكون لإنسان واحد مشاهد أن عليه رأسا واحدا ألف رأس لا يشاهدونها وكل واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه ومحال أن يخبر أحد بأعلى صوته ألف مرة بمحضر ألف نفس كل واحد منهم يسمع جميع ما يقوله بأن زيدا ما قام ويكون قد أخبر بالنفي ولم يسمع الحاضرون حرف النفي مع تكرره ألف مرة وسماع كل واحد منهم جميع ما قاله بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنا حال خروجنا من منازلنا لا تنقلب الأواني التي فيها أناسا مدققين في علم المنطق والهندسة وأن ابني الذي شاهدته بالأمس هو الذي شاهدته الآن وأنه يحدث حال تغميض العين ألف شمس ثم تعدم عندفتحها مع أن الله تعالى قادر على ذلك وهو في نفسه ممكن وأن المولود الرضيع الذي يولد في الحال إنما يولد من الأبوين ولم يمر عليه ألف سنة مع إمكانه في نفسه وبالنظر إلى قدرة الله تعالى. وقد نسب السوفسطائية إلى الغلط وكذبوا كل التكذيب في هذه القضايا الجائزة فكيف بالقضايا التي جوزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات. ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم وأفضل متأخريهم فخر الدين الرازي في هذا الموضع حيث قال يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار فلهذا لا تحس واللون الذي فيها والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد. وغفل عن أن هذا ليس بموضع النزاع لأن المتنازع فيه أن الجسم الذي هو في غاية الحرارة يلمسه الإنسان الصحيح البنية السليم الحواس حال شدة حرارته ولا يحس بتلك الحرارة فإن أصحابه يجوزون ذلك فكيف يكون ما ذكره جوابا
Bogga 12
البحث الخامس في أن الوجود ليس علة تامة في الرؤية خالفت الأشاعرة كافة العقلاء هاهنا وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة فقالوا إن الوجود علة في كون الشي ء مرئيا فجوزوا رؤية كل موجود سواء كان في حيز أو لا وسواء كان مقابلا أو لا فجوزوا إدراك الكيفيات النفسانية كالعلم والإرادة والقدرة والشهوة اللذة وغير النفسانية مما لا يناله البصر كالروائح والطعوم والأصوات والحرارة والبرودة وغيرهما من الكيفيات الملموسة. ولا شك في أن هذا مكابرة للضروريات فإن كل عاقل يحكم بأن الطعم إنما يدرك بالذوق لا بالبصر والروائح إنما تدرك بالشم لا بالبصر والحرارة وغيرها من الكيفيات الملموسة إنما تدرك باللمس لا بالبصر والصوت إنما يدرك بالسمع لا بالبصر ولهذا فإن فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ولو كانت مدركة بالبصر لاختل الإدراك باختلاله وبالجملة فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك وإن من شكك فيه فهو سوفسطائي. ومن أعجب الأشياء تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء مع عدم الحائل السابق وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر وهل هذا إلا عدم تعقل من قائله
Bogga 13
البحث السادس في أن الإدراك ليس لمعنى والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا لزمهم بواسطته إنكار الضروريات فإن العقلاء بأسرهم قالوا إن صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منا حيا لا آفة به. والأشاعرة قالوا إن الإدراك إنما يحصل لمعنى حصل في المدرك فإن حصل ذلك المعنى للمدرك حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط نهج الحق ص : 46و إن لم يحصل لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات لأن من شأن الإدراك أن يتعلق بالمرئي على ما هو عليه في نفسه وذلك يحصل في عدمه كما يحصل حال وجوده فإن الواحد منا يدرك جميع لموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلق وحينئذ يلزم تعلق الإدراك بالمعدوم وبأن الشي ء سيوجد وبأن الشي ء قد كان موجودا وأن يدرك ذلك بجميع الحواس من الذوق والشم واللمس والسمع لأنه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح وبين رؤية المعدوم وكما أن الم باستحالة المعدوم ضروري كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح. وأيضا يلزم أن يكون الواحد منا رائيا مع الساتر العظيم البقة ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم ساتر على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأول وانتفى في الثاني وكان يصح منا أن نرى ذلك المعنى لأنه موجود. وعندهم أن كل موجود يصح رؤيته ويتسلسل لأن رؤية الشي ء إنما تكون بمعنى آخر وأي عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والحرارة والبرودة والصوت بالعين وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت بليد وذوقها باللسان وشمها بالأنف وسماعها بالأذن وهل هذا إلا مجرد سفسطة وإنكار المحسوسات ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة
Bogga 14
البحث السابع في أنه تعالى يستحيل رؤيته وخالفت الأشاعرة كافة العقلاء في هذه المسألة حيث حكموا بأن الله تعالى يرى للبشر أما الفلاسفة والمعتزلة والإمامية فإنكارهم لرؤيته ظاهر لا يشك فيه وأما المشبهة والمجسمة فإنهم إنما جوزوا رؤيته تعالى لأنه عندهم جسم وهو مقابل للرائي فلهذا خالفت الأشاعرة باقي العقلاء وخالفوا الضرورة أيضا فإن الضرورة قاضية بأن ما ليس بجسم ولا حال في الجسم ولا في جهة ولا مكان ولا حيز ولا يكون مقابلا ولا في حكم المقابل فإنه لا يمكن رؤيته ومن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروري وكان في ارتكاب هذه المقابلة سوفسطائيا. وخالفوا أيضا آيات الكتاب العزيز الدالة على امتناع رؤيته تعالى قال عز من قائل لا تدركه الأبصار تمدح بذلك لأنه ذكره بين مدحين فيكون مدحا لقبح إدخال ما لا يتعلق بالمدح بين مدحين فإنه لا يحسن أن يقال فلان عالم فاضل يأكل الخبز زاهد ورع وإذا مدح بنفي الإبصار له كان ثبوته له نقصا والنقص عليه تعالى محال وقال تعالى في حق موسى لن تراني ولن للنفي المؤبد وإذا امتنعت الرؤية في حق موسى ع ففي حق غيره أولى وقال تعالى فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعق بظلمهم ولو جازت رؤيته لم يستحقوا الذم ولم يوصفوا بالظلم وإذا كانت الضرورة قاضية بحكم ودل محكم القرآن أيضا عليه فقد توافق العقل والنقل على هذا الحكم وقالوا بخلافه وأنكروا ما دلت الضرورة عليه وما قاد القرآن إليه ومن خالف الضرورة والقرآن كيف لا يخالف العلم النظري والأخبار وكيف يجوز تقليده والاعتماد عليه والمصير إلى أقواله وجعله إماما يقتدون به وهل يكون أعمى قلبا ممن يعتقد ذلك وأي ضرورة تقود الإنسان إلى تقليد هؤلاء الذين لم يصدر عنهم شي ء من الكرامات ولا ظهر عنهم ملازمة التقوى والانقاد إلى ما دلت الضرورة عليه ونطقت به الآيات القرآنية بل اعتمدوا مخالفة نص الكتاب وارتكاب ضد ما دلت الضرورة عليه ولو جاز ترك إرشاد المقلدين ومنعهم من ارتكاب الخطإ الذي ارتكبه مشايخهم إن أنصفوا لم نطول الكلام بنقل مثل هذه الطامات بسل أوجب الله تعالى علينا إهداء العامة بقوله تعالى ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها
نهج الحق ص : 49المسألة الثانية في النظر وفي المسألة مباحث
البحث الأول في أن النظر الصحيح يستلزم العلم
الضرورة قاضية بأن كل من عرف بأن الواحد نصف الاثنين وأن الاثنين نصف الأربعة فإنه يعلم أن الواحد نصف نصف الأربعة وهذا الحكم لا يمكن الشك فيه ولا يجوز تخلفه عن المقدمتين السابقتين وأنه لا يحصل من تلك المقدمتين أن العالم حادث ولا أن النفس جوهر أو أن الحاصل أولا أولى من حصول هذين. وخالفت الأشاعرة كافة العقلاء في ذلك فلم يوجبوا حصول العلم عند حصول المقدمتين وجعلوا حصول العلم عقيب المقدمتين اتفاقيا يمكن أن يحصل وأن لا يحصل ولا فرق بين حصول العلم بأن الواحد نصف نصف الأربعة عقيب قولنا الواحد نصف الاثنين نهج الحق ص : 50و الاثنان نصف الأربعة وبين حصول العلم بأن العالم محدث أو أن النفس جوهر أو أن الإنسان حيوان أو أن العدل حسن عقيب قولنا إن الواحد نصف الاثنين والاثنان نصف الأربعة. وأي عاقل يرتضي لنفسه اعتقاد أن من علم أن الواحد نصف الاثنين وأن الاثنين نصف اأربعة يحصل له علم أن العالم محدث وأن من علم أن العالم متغير وكل متغير محدث يحصل له العلم بأن الواحد نصف نصف الأربعة وأن زيدا يأكل ولا يحصل له العلم بأن العالم محدث وهل هذا إلا عين السفسطة
Bogga 16
البحث الثاني في أن النظر واجب بالعقل والحق أن مدرك وجوب النظر عقلي لا سمعي وإن كان السمع قد دل عليه أيضا بقوله قل انظروا وقالت الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء وظهور المعاندين عليهم وهم معذورون في تكذيبهم مع أن الله تعالى قال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فقالوا إنه واجب بالسمع لا بالعقل وليس يجب بالعقل شي ء البتة. فيلزمهم إفحام الأنبياء واندحاض حجتهم لأن النبي إذا جاء إلى المكلف وأمره بتصديقه واتباعه لم يجب عليه ذلك إلا مع العلم نهج الحق ص : 51بصدقه لا بمجرد الدعوى يثبت صدقه بل ولبمجرد المعجزة على يده ما لم ينضم إليه مقدمات منها أن هذا المعجز من عند الله تعالى ومنها أنه تعالى فعله لغرض التصديق ومنها أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق ولكن العلم بصدقه حيث توقف على هذه المقدمات النظرية لم يكن ضروريا بل كان نظريا فللمكلف أن يقول لا أعرف صدقك إلا بالنظر والنظر لا أفعله إلا إذا وجب علي وعرفت وجوبه ولم أعرف وجوبه إلا بقولك وقولك ليس حجة علي قبل العلم بصدقك فتنقطع حجة النبي ص ولا يبقى له جواب يخلص به فينتفي فائدة بعثة الرسل حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ويكون المخالف لهم معذورا وهذا هو عين الإلحاد والكفر نعوذ بالله منه. فلينظر العاقل المنصف من نفسه هل يجوز له اتباع من يؤدي مذهبه إلى الكفر وإنما قلنا بوجوب النظر لأنه دافع الخوف ودفع الخوف واجب بالضرورة
Bogga 17
البحث الثالث أن معرفة الله تعالى واجبة بالعقل الحق أن وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل وإن كان السمع قد دل عليه بقوله فاعلم أنه لا إله إلا الله لأن شكر المنعم واجب بالضرورة وآثار النعمة علينا ظاهرة فيجب أن نشكر فاعلها وإنما يحصل بمعرفته ولأن معرفة الله تعالى واقعة للخوف الحاصل من الاختلاف ودفع الخوف واجب بالضرورة. نهج الحق ص : 52و قالت الأشعرية إن معرفة الله تعالى واجبة بالسمع لا بالعقل فلزمهم ارتكاب الدور المعلوم بالضرورة بطلانه لأن معرفة الإيجاب تتوقف على معرفة الموجب فإن من لا نعرفه بشي ء من الاعتبارات البتة نعلم بالضرورةنا لا نعرف أنه أوجب فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال. وأيضا لو كانت المعرفة إنما تجب بالأمر لكان الأمر بها إما أن يتوجه إلى العارف بالله تعالى أو إلى غير العارف والقسمان باطلان فتعليل الإيجاب بالأمر محال أما بطلان الأول فلأنه يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال وأما بطلان الثاني فلأن غير العارف بالله تعالى يستحيل أن يعرف أن الله قد أمره وأن امتثال أمره واجب وإذا استحال أن يعرف أن الله تعالى قد أمره وأن امتثال أمره واجب استحال أمره وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة في صفاته تعالى وفيها مباحث
Bogga 18
المبحث الأول إنه تعالى قادر على كل مقدور الحق ذلك لأن المقتضي لتعلق القدرة بالمقدور هو الإمكان فيكون الله تعالى قادرا على جميع المقدورات. وخالفت في ذلك جماعة من الجمهور فقال بعضهم إن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد وقال آخرون إنه تعالى لا يقدر على غير مقدور العبد وقال آخرون إنه تعالى لا يقدر على القبيح وقال الآخرون إنه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا يتعلق بما علمناه مكتسبا. وكل ذلك بسبب سوء فهمهم وقلة تحصيلهم والأصل في ذلك أنه تعالى واجب الوجود وكل ما عداه ممكن وكل ممكن فإنه إنما يصدر عنه ولو عرف هؤلاء الله حق معرفته لم تتعدد آراؤهم ولا تشعبوا بحسب ما تشعب أهواؤهم
المبحث الثاني في أنه تعالى مخالف لغيره بذاته
العقل والسمع تطابقا على عدم ما يشبهه تعالى فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته. وذهب أبو هاشم من الجمهور وأتباعه إلى أنه يخالف ما عداه بصفة الإلهية وأن ذاته مساوية لغيره من الذوات. وقد كابر الضرورة هاهنا الحاكمة بأن الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد لا يجوز اختلافها فيه فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات لساواها في اللوازم فيكون القدم والحدوث والتجرد والمقارنة إلى غير ذلك من اللوازم مشتركا بينها وبين الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ثم إنهم ذهبوا مذهبا غريبا عجيبا وهو أن هذه الصفة الموجبة للمخالفة غير معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة وهذا كلام غير معقول في غاية السقوط
Bogga 19
المبحث الثالث في أنه تعالى ليس بجسم أطبق العقلاء على ذلك إلا أهل الظاهر كداود والحنابلة كافة فإنهم قالوا إنه تعالى جسم يجلس على العرش ويفضل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره وأنه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار وينادي إلى الصباح هل من تائب هل من مستغفر وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها. نهج احق ص : 56و السبب في ذلك قلة تمييزهم وعدم تفطنهم بالمناقضة التي تلزمهم وإنكار الضروريات التي تبطل مقالتهم فإن الضرورة قاضية بأن كل جسم لا ينفك عن الحركة والسكون وقد ثبت في علم الكلام أنهما حادثان والضرورة قاضية أن ما لا ينفك عن المحدث فإنه يكون محدثا فيلزم حدوث الله تعالى والضرورة الثانية قاضية بأن كل محدث مفتقر إلى محدث فيكون واجب الوجود مفتقرا إلى مؤثر ويكون ممكنا فلا يكون واجبا وقد فرض أنه واجب هذا خلف. وقد تمادى أكثرهم فقال إنه تعالى يجوز عليه المصافحة وإن المخلصين يعانقونه في الدنيا وقال داود اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك وقال إن معبوده جسم ذو لحم ودم وجوارح وأعضاء وإنه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة لما اشتكت عيناه. فلينصف العاقل المقلد من نفسه هل يجوز له تقليد هؤلاء في شي ء وهل للعقل مجال في تصديقه في هذه المقالات الكاذبة والاعتقادات الفاسدة وهل تثق النفس بإصابة هؤلاء في شي ء البتة
المبحث الرابع في أنه تعالى ليس في جهة
Bogga 20
نهج الحق ص : 57العقلاء كافة على ذلك خلافا للكرامية حيث قالوا إنه تعالى في جهة فوق ولم يعلموا أن الضرورة قضت بأن كل ما هو في جهة فإما أن يكون لابثا فيها أو متحركا عنها فهو إذن لا ينفك عن الحوادث وكل ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث على ما تقدم المبحث الخامس في أنه تعالى لا يتحد بغيره الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد فإنه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا. وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور فحكموا بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين حتى أن بعضهم قال إنه تعالى نفس الوجود وكل موجود هو الله تعالى. وهذا عين الكفر والإلحاد. والحمد لله الذي فضلنا باتباع أهل البيت دون أهل الأهواء الباطلة
المبحث السادس أنه تعالى لا يحل في غيره
من المعلوم القطعي أن الحال مفتقر إلى المحل والضرورة قضت بأن كل مفتقر إلى الغير ممكن فلو كان الله تعالى حالا في غيره لزم إمكانه فلا يكون واجبا هذا خلف. وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك وجوزوا عليه الحلول في أبدان العارفين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فانظروا إلى هؤلاء المشايخ الذين يتبركون بمشاهدهم كيف اعتقادهم في ربهم وتجويزهم تارة الحلول وأخرى الاتحاد وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء وقد عاب الله تعالى على الجاهلية الكفار في ذلك فقال عز من قائل وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية وأي غافل أبلغ من تغفل من يتبرك بمن يتعبد الله بما عاب به الكفار فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين ع وقد صلوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا لم يصل ثم صلوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص فقال وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل أيجوز أن يجعل بينه وبين الله تعالى حاجبا فقلت لا فقال الصلاة نهج الحق ص : 59حاجب بين العبد والرب. فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء وقائدهم في الله تعالى كما تقدم وعبادتهم ما سبق واعتذارهم في ترك الصلاة ما مر ومع ذلك فإنهم عندهم الأبدال فهؤلاء أجهل الجهال
المبحث السابع في أنه تعالى متكلم وفيه مطالب
Bogga 21
المطلب الأول في حقيقة الكلام الكلام عند العقلاء عبارة عن المؤلف من الحروف المسموعة. نهج الحق ص : 60و أثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا مغايرا لهذه الحروف والأصوات دالة عليه. وهذا غير معقول فإن كل عاقل إنما يفهم من الكلام ما قلناه فأما ما ذهبوا إليه فإنه غير معقول لهم ولغيرهم البتة فيف يجوز إثباته لله تعالى وهل هذا إلا جهل عظيم لأن الضرورة قاضية بسبق التصور على التصديق. وإذ قد تمهدت هذه المقدمة فنقول لا شك في أنه تعالى متكلم على معنى أنه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة قائمة بالأجسام الجمادية كما كلم الله تعالى موسى من الشجرة فأوجد فيها الحروف والأصوات. والأشعرية خالفوا عقولهم وعقول كافة البشر وأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم. وإثبات مثل هذا الشي ء والمكابرة عليه مع أنه غير متصور البتة فضلا عن أن يكون مدلولا عليه معلوم البطلان ومع ذلك فإنه صادر منا أو فينا عندهم ول نعقله نحن ولا من ادعى ثبوته
المطلب الثاني في أن كلامه تعالى متعدد
المعقول من الكلام على ما تقدم أنه الحروف والأصوات المسموعة وهذه الحروف المسموعة إنما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام وذلك بأن يكون خبرا أو أمرا أو نهيا أو استفهاما أو تنبيها وهو الشامل للتمني والترجي والتعجب والقسم والنداء ولا وجود له إلا في هذه الجزئيات. والذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا فذهب بعضهم إلى أن كلامه نهج الحق ص : 61تعالى واحد مغاير لهذه المعاني وذهب آخرون إلى تعدده. والذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شي ء لا يتصورونه هم ولا خصومهم من أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوره هو ولا غيره كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ويناط به الأحكام
Bogga 22
المطلب الثالث في حدوثه العقل والسمع متطابقان على أن كلامه تعالى محدث ليس بأزلي لأنه مركب من الحروف والأصوات ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعة واحدة فلا بد أن يكون أحدهما سابقا على الآخر والمسبوق حادث بالضرورة والسابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة وقد قال الله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث. وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه وأنه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين. وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقه تعالى فإن الواحد منا لو جلس في بيت وحده منفردا وقال يا سالم قم ويا غانم اضرب ويا سعيد كل ولا أحد عنده من هؤلاء عده كل عاقل سفيها جاهلا عادما للتحصيل فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل الدال على السفه والجهل والحماقة إليه تعالى. نهج الحق ص : 62و كيف يصح منه تعالى أن يقول في الأزل يا أيها النس اعبدوا ربكم ولا مخاطب هناك ولا ناس عنده ويقول يا أيها الذين آمنوا وأقيموا الصلاة ولا تأكلوا أموالكم ولا تقتلوا أولادكم وأوفوا بالعقود. وأيضا لو كان كلامه قديما لزم صدور القبيح منه تعالى لأنه إن لم يفد بكلامه في الأزل شيئا كان سفيها وهو قبيح عليه تعالى وإن أفاد فإما لنفسه أو لغيره والأول باطل لأن المخاطب إنما يفيد نفسه لو كان يطرب في كلامه أو يكرره ليحفظه أو يتعبد به كما يعبد الله بقراءة القرآن وهذه في حقه تعالى محال لتنزهه عنها والثاني باطل لأن إفادة الغير إنما تصح لو خاطب غيره ليفهمه مراده أو يأمره بفعل أو ينهاه عن فعل ولما لم يكن في الأزل من يفيده بكلامه شيئا من هذه كان كلامه سفها وعبثا وأيضا يلزمه الكذب في إخباره تعالى لأنه لو قال في الأزل إنا أرسلنا نوحا أوحينا إلى إبراهيم وولقد أهلكنا القرون وضربنا لكم الأمثال مع أن هذه إخبارات عن الماضي والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذب تعالى الله عنه وأيضا قال الله تعالى إنما قولنا لشي ء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فه إخبار عن المستقبل فيكون حادثا
المطلب الرابع في استلزام الأمر والنهي الإرادة والكراهة
كل عاقل يريد من غيره شيئا على سبيل الجزم فإنه يأمر به فإذا كره الفعل فإنه ينهى عنه وإن الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة. وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك وقالوا إن الله تعالى يأمر دائما بما لا يريده بل بما يكرهه وإنما ينهى عن ما لا يكرهه بل عما يريده. وكل عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
المطلب الخامس في أن كلامه تعالى صدق
اعلم أن الحكم يكون كلام الله تعالى صادقا لا يجوز عليه الكذب إنما يتم على قواعد العدلية الذين أحالوا صدور القبيح عنه تعالى من حيث الحكمة ولا يتمشى على مذهب الأشعرية لوجهين الأول أنهم أسندوا جميع القبائح إليه تعالى وقالوا لا مؤثر في الوجود من القبائح بأسرها وغيرها إلا الله تعالى ومن يفعل أنواع الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع المعاصي والقبائح المنسوبة إلى البشر كيف يمتنع أن يكذب في كلامه وكيف يقدر الباحث على إثبات كونه صادقا الثاني أن الكلام النفساني عندهم مغاير للحروف والأصوات ولا نهج الحق ص 64طريق لهم إلى إثبات كونه تعالى صادقا في الحروف والأصوات
Bogga 24
المبحث الثامن في أنه تعالى لا يشاركه شي ء في القدم العقل والسمع متطابقان على أنه تعالى مخصوص بالقدم وأنه ليس في الأزل سواه لأن كل ما عداه سبحانه وتعالى ممكن وكل ممكن حادث وقال تعالى هو الأول والآخر. وأثبتت الأشاعرة معه معاني قديمة ثمانية هي علل الصفات كالقدرة والعلم والحياة إلى غير ذلك ولزمهم من ذلك محالات منها إثبات قديم غير الله تعالى قال فخر الدين الرازي النصارى كفروا بأنهم أثبتوا ثلاثة قدماء وأصحابنا أثبتوا تسعة. ومنها أنه يلزمهم افتقار الله تعالى في كونه عالما إلى إثبات معنى هو العلم ولولاه لم يكن عالما وافتقاره في كونه تعالى قادرا إلى القدرة ولولاها لم يكن قادرا وكذا باقي الصفات والله تعالى منزه عن الحاجة والافتقار لأن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن. ومنها أنه يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى وهو محال بيان الملازمة إن العلم بالشي ء مغاير للعلم بما عده فإن من شرط العلم المطابقة ومحال أن يطابق الشي ء الواحد أمورا متغايرة متخالفة في الذات والحقيقة لكن المعلومات غير متناهية فيكون له علوم غير متناهية لا مرة واحدة بل مرارا غير متناهية باعتبار كل علم يفرض في كل مرتبة من المراتب الغير المتناهية لأن العلم بلشي ء مغاير للعلم بالعلم بذلك الشي ء ثم العلم بالعلم بالشي ء مغاير نهج الحق ص : 65للعلم بالعلم بذلك الشي ء وهكذا إلى ما لا يتناهى وفي كل واحدة من هذه المراتب علوم غير متناهية وهذه السفسطة لعدم تعقله بالمرة. ومنها أنه لو كان الله تعالى موصوفا بهذه ت وكانت قائمة بذاته كانت حقيقة الإلهية مركبة وكل مركب محتاج إلى جزئه وجزء غيره فيكون الله تعالى محتاجا إلى غيره فيكون ممكنا وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين ع حيث قال أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله
ومنها أنهم ارتكبوا هاهنا ما هو معلوم البطلان وهو أنهم قالوا إن هذه المعاني لا هي نفس الذات ولا مغايرة لها وهذا غير معقول لأن الشي ء إذا نسب إلى آخر فإما أن يكون هو هو أو غيره ولا يعقل سلبهما معا
المبحث التاسع في البقاء وفيه مطلبان
Bogga 26
الأول أنه ليس زائدا على الذات وذهب الأشاعرة إلى أن الباقي إنما يبقى ببقاء زائد على ذاته وهو نهج الحق ص : 66عرض قائم بالباقي وأن الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته تعالى. ولزمهم من ذلك المحال الذي تجزم الضرورة ببطلانه من وجوه الأول أن البقاء إن عني به الاستمرار لزم اتصاف العدم بالصفة لثبوتية وهو محال بالضرورة بيان الملازمة أن الاستمرار كما يتحقق في جانب الوجود كذا يتحقق في جانب العدم لإمكان تقسيم المستمر إليهما ومورد التقسيم مشترك ولأن معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار فإن احتاج كل منهما إلى صاحبه دار وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر أمكن تحقق كل منهما بدون صاحبه فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس وهو باطل بالضرورة وإن احتاج أحدهما إلى صاحبه انفك الآخر عنه وهو ضروري البطلان. الثاني أن وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور لأن البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر الذي فرض باقيا كان كل من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه وهو عين الدور المحال وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره لزم قيام الصفة بغير الموصوف وهو غير معقول. أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر فجاز أن يقوم بذاته لا في محل ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني وهو خطأ لأنه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا مجردا والبقاء لا يعقل إلا عرضا قائما بغيره. وأيضا يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات وتكون الذات بالوصفية أولى منه لأنه مجرد مستغن عن الذات والذات محتاجة إليه والمحتاج أولى بالوصفية من المستغني والمستغني أولى بالذاتية من المحتاج. نهج الحق ص : 67و لأنه يقتضي بقاء جميع الأشياء لعدم اختصاصه بذات دون أخرى حينئذ. الثالث أن وجود الجوهر في الزمان الثانيهو وجوده في الزمان الأول ولما كان وجوده في الزمان الأول غنيا عن هذا البقاء كان وجوده في الزمان الثاني كذلك لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا لذاته إلى شي ء وبعض أفرادها مستغنيا عنه المطلب الثاني في أن الله تعالى باق لذاته
الحق ذلك لأنه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ولا يكون واجبا للتنافي بالضرورة بين الواجب والممكن وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنه تعالى باق بالبقاء. وهو خطأ لما تقدم ولأن البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى مع أن ذاته محتاجة إلى البقاء فيدور وإن قام بغيره كان وصف الشي ء حالا في غيره وإن غيره محدث وإن قام البقاء بذاته كان مجردا. وأيضا بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرق العدم إلى ذاته ]صفاته[ تعالى. ولأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث فيكون له بقاء آخر ويتسلسل. وأيا صفاته تعالى باقية فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى
خاتمة تشتمل على حكمين الأول البقاء يصح على الأجسام بأسرها
وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك. وخالف فيه النظام من الجمهور فذهب إلى امتناع بقاء الأجسام بأسرها بل كل آن يوجد فيه جسم ما يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده ولا يمكن أن يبقى جسم من الأجسام فلكيها وعنصريها بسيطها ومركبها ناطقها وغيرها آنين. ولا شك في بطلان هذا القول لقضاء الضرورة بأن الجسم الذي شاهدته حال فتح العين هو الذي شاهدته قبل تغميضها والمنكر لذلك سوفسطائي بل السوفسطائي لا يشك في أن بدنه الذي كان به بالأمس هو بدنه الذي كان الآن وأنه لا يتبدل بدنه من أول لحظة إلى آخرها وهؤلاء جزموا بالتبدل.
Bogga 28
الثاني في صحة بقاء الأعراض ذهبت الأشاعرة إلى أن الأعراض غير باقية بل كل لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون وحصول في مكان وحياة وعلم وقدرة وتركب وغير ذلك من الأعراض فإنه لا يجوز أن يوجد آنين متصلين بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجوده. نهج الحق ص: 69و هذا مكابرة للحس وتكذيب للضرورة الحاكمة بخلافه فإنه لا حكم أجلى عند العقل من أن اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها وأنه لم يعدم ولم يتغير وأي حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه
ثم إنه يلزم منه محالات الأول
أن يكون الإنسان وغيره يعدم في كل آن ثم يوجد في آن بعده لأن الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم بل لا بد في تحقق كونه إنسانا من أعراض قائمة بتلك الجواهر من لون وشكل ومقدار وغيرها من مشخصاته ومعلوم بالضرورة أن كل عاقل يجد نفسه باقية لا تتغير في كل آن ومن خالف ذلك كان سوفسطائيا وهل إنكار السوفسطائيين للقضايا الحسية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كل أحد بقاء ذاته وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزمان. فلينظر المقلد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها الذي قلده ويعرض على عقله حكمه بها وهل يقصر حكمه ببقائه وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات ويعلم أن إمامه الذي قلده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة فقد قلد من لا يستحق التقليد وأنه قد التجأ إلى ركن غير شديد وإن لم يقصر ذهنه فقد غشه وأخفى عنه مذهبه
وقد قال ص من غشنا فليس منا
الثاني
أنه يلزم تكذيب الحس الدال على الوحدة وعدم التغير كما تقدم.
Bogga 29
الثالث أنه لو لم يبق العرض إلا آنا واحدا لم يدم نوعه ]لم يلزم تأبيد نوعه[ فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر بل نهج الحق ص : 70جاز أن يحصل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شي ء من الألوان إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول لكن دوامه يدل على وجوب بقا.
الرابع
لو جوز العقل عدم كل عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحس لجوز ذلك في الجسم إذ الحكم ببقاء الجسم إنما هو مستند إلى استمراره في الحس. وهذا الدليل لا يتمشى لانتقاضه بالأعراض عندهم فيكون باطلا فلا يمكن الحكم ببقاء شي ء من الأجسام آنين لكن الشك في لك هو عين السفسطة.
الخامس
أن الحكم بامتناع انقلاب الشي ء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري وإلا لم يبق وثوق بشي ء من القضايا البديهية وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود فيستغني عن المؤثر فيسد باب إثبات الصانع تعالى بل ويجوز انقلاب واجب الوجود إلى التناع وهو ضروري البطلان وإذا تقرر هذا فنقول الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأول فتكون كذلك في الآن الثاني وإلا لزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء.
وقد احتجوا بوجهين الأول
البقاء عرض فلا يقوم بالعرض.
Bogga 30