ولكن كيد هؤلاء الناس لم يحدث في الأمة أثرا؛ لأنه ظاهر الغرض، بين القصد، ولأن النفوس التي تكيد به معروفة عند الشعب بسوء الدخلة، وسواد النية، ولم تحفل الوزارة بأن تقنع هؤلاء المحرشين، أو تدفع عنها كيدهم؛ لأنها تعلم أن الأمة لا تتأثر، ولا تتسخط ما دام كل شيء سيبسط أمامها يوم يجتمع برلمانها، ويحتشد نوابها في صعيد واحد.
وكذلك تألفت لجنة لوضع الدستور قليلة العدد؛ لأن كثرة العدد لا تجدي في أمر كهذا، ولا تفيد، ممثلة فرقا متعددة من الشعب، وطوائف مختلفة؛ لكي يدفع كل ممثل إلى إخوانه برغائب فرقته، وأهل صناعته؛ والوسط الذي يعيش فيه.
ونحن نعلم أن كثيرين من أعضاء اللجنة ظفروا فيما مضى من تاريخ الجمعيات التشريعية في هذه البلاد بمقاعد النيابة عن دوائر مختلفة، وطوائف متعددة، وتمثيل مصالح فرق كثيرة من هذا الشعب، وطبقات عديدة من الأمة، وفيهم أصحاب العقول الناضجة، وأهل الاطلاع الواسع، والمادة الغزيرة ، وفيهم العلماء والروحيون، والمحامون، والقضاة، والكتاب، والفنيون، والسروات، والمزارعون، ورؤوس القبائل والعشائر، والمتكلمون عن الألوف، وقواد المئات من أهل البلاد، ولكن لم تكد مذكرة الوزير تنشر على الأمة، ويعرف القوم أسماء الأعضاء، حتى انبرى جمع قليل ممن نعرفهم يتصدون لكل عمل صالح ليهدموه، وينبرون لكل فكرة منتجة ليعطلوا نموها؛ فتناولوا هذه الأسماء بالنقد والتجريح، وهم يعلمون أنهم بذلك يبعثون في القطر صيحات الفتنة، ويكرهون طبقات الأمة في بعضها البعض، ويسعون بالبغضاء بين الفئة والفئة، والنفور بين الفرقة والفرقة؛ لأن لكل عضو من هؤلاء عددا عديدا من الأمة يناصرونه، ويعيشون تحت زعامته، ويفزعون إليه في ملماتهم وشؤونهم، وأحوال حياتهم، وكل رجل من هؤلاء إذا غضب غضبت لغضبه ألوف من الناس، لا يدرون لم غضب، وهؤلاء أحرص الناس على كرامة رأسهم، ومكانة وليهم، وكلما سمعوا عنه ما يكره كرهوا هم من نقده، واستنفرهم الطعن عليه، واستفزتهم الحمية لأجله، ويوم تكون طبقات هذه البلاد أعداء بعضها البعض، ومجاميع الأمة متجنية على أخواتها، ولداتها، والأمة متنافرة متطاعنة، متسابة متشاتمة، وتنقلب الروح النيابية التي تريد أن تزكو في هذا الأفق، وتمتن وتنمو، وتثبت في مكانها؛ فوضى هوجاء طائشة اللب، مخلوطة الذهن، عمياء صماء، لا تستمع للعقل، ولا تبصر أين مواضع الرشد.
وقد جعل بعض هؤلاء القوم الذين نقدوا انتخاب الوزارة، وقدحوا في اختيار هؤلاء الأعضاء، يتلومون وينبعثون قائلين: إن منهم من لا يعرف مبادئ القراءة والكتابة، كأنما غاب عن الوزير علم ما علموا، ونسي إذ اختارهم شخصية من اختار، أو أملي عليه أن ينتخب من لا يعرف، ويذكر في مذكرته من يجهل حقيقته، ولا يدرك شيئا من ماضي حياته، ونحن نقول لهؤلاء المتعلمين الذين رموا بعض هؤلاء الأعضاء بالأمية: إن أميتهم تلك أنبل وأشرف قصدا، وأعز في الوطنية مكانا، وأثبت في البلد قدما من علمكم هذا، وسعة اطلاعكم تلك، فذاك علم خائن دساس، ملوث الروح، مساء الاستخدام، شرير النزعة، رمحكم يوم ركبتم ظهره، وأعنتكم يوم أردتم إظهاره، وطوح بكم إلى منازع الطيش، وركض بكم في حلبة الغرور، والنفج، والعزة الآثمة، ومن الأميين في هذه البلاد أذهان قوية، تستمد عظمتها من الفطرة، وتنمو على الخبر والتجربة، وتعلمها الحوادث ما لا تعلمون قليلا منه من الكتب، وفي طبقات الفلاحين والصناع في بلدنا، وهم سواد الأهلين، وأغلبية السكان وطنية أمية من ناحية أذهانها، عبقرية من ناحية قلوبها، وللقلوب والعاطفة الإنسانية عبقرية حارة ملتهبة، لا تستطيع الكتب أن توقد جزءا ضعيفا من لهيبها وحميتها، أو تخلع على قرائها شيئا يداني ذكاءها ولباقتها، وسرعة إحساسها، وتنبهها لما يفيدها، ومعرفتها لما يضيرها، وفي الناس عظماء أذهان تنهض على قلوب من الطين، وأرواح متأودة ضعيفة، شريرة خبيثة المنزع.
ونحن نعلم كذلك أن الرجل في بلاد الغرب لا ينبغي أن يكون متبحرا في العلم، واسع مادة الاطلاع، أستاذا في فنه، عارفا بالجغرافية، والتاريخ، والبيولوجيا، والفسيولوجيا، وما إليها من مختلف العلوم قبل أن يرتفع إلى مجلس الإنابة، ويظفر بمقعد له في البرلمان، بل لا يزال في مجالس نواب الإنكليز، وغيرهم من أمم الغرب نواب لا يعرفون شيئا أكثر من أنهم جاءوا بالنيابة عن القرية، والولاية التي ولدوا فيها، وطالت زروعهم في أرضها، وامتلكوا مساحة واسعة في إقليمها؛ فهم يدافعون عن الإقليم بوحي الإقليم، ويرعون مصالح أمتهم في البرلمان بألسنة الولاية التي جاؤوا منها، وقد يكون هؤلاء جميعا من القرويين؛ فلم يروا غير قروية نبيلة، ذكية الفؤاد، وإن لم تؤت شيئا كثيرا من العلم؛ فآثروها على غيرها، وأنابوها عنها في رعاية شؤونها.
وكذلك كانت هذه القروية البادية التي ظهرت في لجنة الدستور؛ فهي لم توضع في تلك اللجنة إلا لتكون صوتا يعبر عن خواطر مئات الألوف من المزارعين، والعاملين في الأرض، وهي تعرف ماذا تريد الأمة، وإن لم تقرأه أو تكتبه، وتدرك مطالب الشعب، وإن لم تتصفحها في تلك العرائض، والاحتجاجات، والمقالات، والأبحاث الكاذبة المتظاهرة المتكبرة، المزهوة بعلم أصحابها، ونفخة كتابها، وهي تستهدي بما يقال أمامها؛ لتدلي بما يقول لها ضميرها، ويكلمها به وجدانها، وما كان صوت الضمير شريرا فيخطئ، وما كان إلهام الوجدان كاذبا فيؤذي ويضر.
ومما تناولته اللجنة في جلساتها موضوع الأقليات، وهي كلمة لم نكن نعرفها، ولم نشعر بوجودها يوم تناولنا عقائدنا الدينية من مكانها، وألقينا بها في زاوية من جوانحنا، وقلنا: ديننا الأول وطننا، وأن مصر للجميع لا للعقيدة دون العقيدة، ولا لملة دون ملة، وطائفة قبل طائفة؛ لأن جامعة الوطن أمتن من جامعة الدين؛ فتلك تستمد متانتها وصلابتها وقوتها من الأرض التي نبتت منها، وارتبطت بها، وهذه لا سبب لها إلا من السماء؛ وإن جامعة الوطن هي علاقة الفرد بالفرد، والأخ بأخيه، والعشير بعشيره، وإن جامعة الدين ليست إلا الرابطة والعلاقة بين الله والناس، وهذه صلة خفية كمينة مستسرة في أعماق النفس، تطلع إلى السماء، وتنظر إلى العالم المجهول، ولا حق لها أن تفسد ما بين أهل الأرض الواحدة، وأصحاب الوطن الواحد، ويوم انضوينا تحت علم الوطنية، ومشينا جندا محضرين لحرية البلاد، وتحرير أرضنا، لم يكن يخشى قليل كثيرا، ولم يتلجلج في خاطر فرد واحد منا أن أخاه يوم الحرية سيروح عاسفا حقه، ظالما له منكرا فضل وطنيته، جاحدا عمله، مستفردا بالتشريع، مغلبا حقه على حقه، ولكن السادة الإنكليز هم الذين خلفوا هذه الكلمة النكراء اللئيمة الطبع؛ أملا أن تثير في النفوس ألما، وتوسع لهم ثغرة ينفلتون منها إلى تفرقة الأمة، واستنفار بعضها على بعض؛ ليتواتى لها ما تريد، ويحق لها ما كانت تبتغي، ولكن هذه الأمة التي أصبحت تدين بدين الوطنية، قبل أن تكون قبطية ومسلمة ويهودية لم تعد تخدع بهذه الكلمات، أو يدق عليها مغازي السياسة، ومقاصد أساليب المستعمرين، فمرت تلك الكلمة ذاهبة مع الريح؛ لم تحدث أثرا، ولم تصل إلى مكان العقيدة من النفوس، وكانت هذه الأقليات نفسها التي تصدى السادة الإنكليز لحماية مصالحها، ونادوا برعاية حقوقها، أول الناس خروجا على الكلمة القلقة النافرة الشريرة الدنسة، واحتجاجا على أثارتها، وتفنيدا لمزاعم قائليها؟
ونحن لا يسعنا إلا أن نشهد لهذه اللجنة بتلك الهمة العالية التي ظهرت من جانبها، والتخفف للعمل، والتلبب للبحث، وادخار قوة التفكير، واستجماع الخاطر ، والغيرة في التدقيق، واستقصاء نقط البحث، واستيعاب المناقشة في أمهات المسائل، وإن أنكر عليها كل ذلك المتعجلون المتسخطون، كأنهم حسبوا أن وضع دستور البلاد عمل هين، حسبه عدة الأيام، وقلائل الأسابيع، وتكفي فيه الجلسة والجلستان، والمقنع في النظرة دون النظرتين، والرأي الفطير دون الرأي المختمر، وكأننا صبرنا على الذل والخسف عدة السنوات، والجيل والجيلين، وكادت الحياة تخمد فينا؛ وتعطل في كياننا روح السخط على ما كنا فيه، ثم يزعجنا أن نتمكث للأناة، ونصطبر الشهر والشهرين لإعمال الروية، ومتابعة الحزم، وطول التفكير، وتوفية البحث.
وقد استغرق وضع عدة أنظمة وقوانين صغيرة الأهمية بجانب وضع الدستور العام، وبعض العام، ولسنا الآن حيال وضع قانون الخمسة الأفدنة، أو أجور المساكن، أو حيازة الأسلحة؛ حتى يتألم قوم منا من الزمن الذي مضى على اللجنة إلى اليوم، وهي في عملها ذاك.
فلما أقبل الصيف، واشتدت وقدة القيظ، ووجبت الإراحة من العمل، وإعفاء اللجنة من متابعة الجهد في الصيف القائظ، الملتهب الأفق؛ عاد أولئك الساخطون يتذمرون، ويعبثون باللجنة، ويحسبونها ستنطلق من المدرسة للفسحة التي لا عقل لها، والعطلة التي لا تفكير في خلالها أشبه شيء بطلبة المدارس، وأولاد «الكتاب»؛ إذ لا يلبثون بعد الفراغ من السنة الدراسية، ودق ناقوس العطلة أن يعدوا إلى اللعب مارحين، هازئين بالحياة وبالدرس، وبما كانوا من قبل فيه من مذاكرة ومواصلة عمل، وإخلاد إلى كتبهم وكراساتهم، ولكن الأطفال يعيشون بضمير الطفولة، وأذهان السذاجة، وكراهية التفكير والملل من الرزانة والجد والتعقل، وهؤلاء الأعضاء لا يستطيعون أن يتخلصوا في ساع فراغهم، وفي خلواتهم إلى أنفسهم، وفي مشياتهم إلى النزهة، واستقبال نسائم الصباح، وعلائل الماء تحت الشجرة الظليلة، وعلى ساحل البحر الخضم، وفي الملهى المكتظ بالناس، وفي الضجيج والعجيج، والهدوء والسكون، من ذلك النداء الذي يسمعون صيحته من أعماق قلوبهم، يهيب بهم إلى التفكير فيما قدموا من عمل لأمتهم، والتروي، وتقليب ألوان الرأي فيما بقي عليهم أن يؤدوه، وفي الفريضة التي تحتم عليهم القيام بها، وهم يوم يعودون إلى العمل - وقد عادوا اليوم - يقبلون أقوى نفوسا مما كانوا، وأخف إلى العمل مما خفوا من قبل إليه، وفي جعبة تفكيرهم خواطر طريفة لم يكونوا في جلساتهم الأولى، ودورهم الماضي قد اهتدوا إلى مثلها، وآراء جديدة، ومواضع للنقد غابت من قبل عن أذهانهم.
Bog aan la aqoon