ولكن كم من هؤلاء أحدثوا انقلابا في مادة العلم لدينا، أو غيروا وجهة الأدب عندنا، أو أثاروا نهضة اجتماعية كبرى، أو خلدوا أسماءهم، وأرسلوها مع الشمس تجري فوق رؤوس الناس ؛ فتبهر أنظارهم، وتدفئ أرواحهم؟ وأين الكاتب العبقري الذي أخرجته الجامعة؟ وأين قلم الوحي الإلهي الذي نشأ في المعهد؟ وأين المشرع العظيم الذي وثب من كلية القانون؟ وأين المهندس الصنع، الحاذق الجديد الذي جاءنا من البلد القصي على صفحة البحر الأبيض؟ وأين الكتب والتآليف التي كانت نتاج الدرس في الجامعات والأسفار، والأبحاث، والمخترعات، والمبتكرات التي خرجت وليدة الذاكرة والبقاء أعواما طوالا في الكليات؟
لم نر شيئا من ذلك في صفوفنا، وإن رأينا خلقا كثيرا جاؤوا بشهادات عالية، ولم يجيئونا معها بشيء من ثمرات تلك الشهادات أو دلائلها، بل هؤلاء إنما يزيدون في كل عام قوائم أسماء المحامين، أو يندمجون في وظائف الحكومة، فلا يفضلون الحكوميين الذين نشأوا في مصر، وتخرجوا من مدارسها، وأخذوا العلم عن معاهدها، أو يفوقونهم في كثير أو قليل، ولم تزدد نهضتنا بهم شيئا، أو تمتن أصلابها فتحتمل زوبعة الحياة، وتجالد مطالب العصر. ولو أنك أحصيت عدد الذين فقدتهم هذه الأمة في بلاد الغرب، ومدارسها، وخابوا في البحث عن الشهادات يزجونها إلى دوائر الحكومة للظفر بالوظائف المنتخبة الرقية، والذين عادوا إلينا وقد فقدوا جنسيتهم، واستنكروا أن ينتسبوا إلى بلدهم، أو يذكر أمامهم وطنهم، والذين رجعوا ولم يظفروا بإجازة أو شهادة إلا إجازة زواج بفتاة دميمة، أو امرأة نصف مطلقة، أو عذراء لم تجد في بلدها فتى يتطلع إلى البناء بها، ولم تر خطابا يتزاحمون عليها، فكأنما ذهبوا لهذا، وكأنما عز عليهم أن لا يعودوا بشيء مما ذهبوا لأجله؛ فعادوا بخفي حنين.
نعم، إنك لو أحصيت عدد هؤلاء وأولئك، لعلمت أنه لا يشفع عدد من نجحوا في مدارس الغرب لعدد الذين أخفقوا، ولا يستطيع أولئك أن يعتذروا لهؤلاء، وأن ما استفدنا به من شبابنا الذين جاؤونا بالإجازات العلمية لا يقع في شيء إذا قورن بنكبتنا من وراء ذلك، والضرر الذي لحق كياننا من أثر ما فعل المخفقون الراسبون الراكدون منهم، وحسبك ما كان من جراء هذه الزيجات الأجنبية، وما بلتنا به، حتى أصبحنا نجد ألوفا من فتياننا في منازلنا من غير زواج عانسات، لا يجدن خطابا، أو «منتظرات»، والشباب غير منتظر، والجمال متحول غير معمر، وقد أصبح كثيرون من الآباء يدفعون ببناتهم، وثمرات تربيتهم إلى أول خاطب مخافة أن لا يكون وراءه خاطب آخر، وفي ذلك من نذير الشقاء، وتهدم الأسرة، وفساد العيش ما فيه، وكأنما هؤلاء الشباب لا يرون في بلدهم ولا فتاة واحدة تصلح لواحد منهم، وأن أولئك الفتيات المهذبات اللاتي رأينا ما فعلن في وقدة هذه النهضة، وما أسهمن به في الوطنية الصادقة لا يصلحن أزواجا، ولا يرقن في أعين الشباب «المستغربين»، ولا تصلح كلمة «مدام» لفتاة منهن، وكأن فتياتنا المطالبات اليوم بحق الانتخاب في نظر أولئك الشباب الذين غرتهم الحضارة الغربية، وخدعهم زخرفها، ولين ملمسها، ونعومة مظهرها لا يحاكين في ذهنيتهن، وآدابهن، وعلو مداركهن تلك البضاعة النسائية التي وردوها لنا من حلقات الدرس في الغرب، ومن الإجار الفقيرة التي كانوا يسكنونها في الجامعة.
وكذلك ترى أن كثرة الخريجين، وحملة الشهادات العالية لم ترتفع بنا، ولم تنهض بحالتنا الاجتماعية من البلاء الموكل بها، وأن ما نخسره من ورائها أكبر مما نجنيه منها، ونحن رأينا كثيرين أتموا دروسهم في الغرب، وعادوا بالدكتوراه، والإجازات النهائية، ولم تتح الأقدار لصاحب هذه الترجمة: إن يكون في الذين ذهبوا للعودة بها؛ فتخلفوا هم، واستبق المترجم به، وما شهدنا من نبوغه في القضاء، ومن عمله في المناصب القضائية التي تولاها، ثم تنقل فيها يؤيد رأينا أن النبوغ إنما يسخر من الشهادات، وأن العبقرية لا تنقصها الإجازة، أو الجلوس في الجامعة العالية. •••
وإذا كانت الحكومة قد أخفقت في فكرتها التي أرادت تحقيقها في مبدأ أمرها من إرسال المترجم به إلى جامعة أوروبية لإتمام دروسه على نفقتها؛ لأن القدر وقف في طريقها وطريقه، فقد أبت إلا أن تدخره لنفسها، ولم تشأ أن ينطلق من يديها ليسلك نفسه في المحاماة، أو في عمل حر يسد به ثلمة في صفوف العاملين الأحرار الخارجين عن مكاتبها؛ فدخل المترجم به أول ما دخل في وظائف الحكومة في قلم قضايا الدائرة السنية، ولبث كذلك ردحا من الزمن يظهر فيه نبوغه، وتتجلى فيه عبقريته القضائية حتى اهتدى إليه رجل من كبار رجال الحكومة يومذاك، وهو السير جون سكوت، وكان يشغل إذ ذاك منصب المستشار في وزارة الحقانية، فراعه ما رأى من وحي ذكائه، ومن أمارات التفوق تبدو على صفحة وجهه، وفي أضعاف العمل الذي بين يديه، وفي الهمة المتقدة بين أضلاعه، والتوثب إلى البروز والنهوض من مكانه ذاك؛ فاختاره ليكون كاتم سر للجنة المراقبة القضائية.
وقد كانت تلك الخطوة الأولى في طريقه إلى المجد، وسبيله إلى التفوق، وإظهار عظمة ذهنه على الأقران واللدات، فما زال يشغل تلك الوظيفة في اللجنة، ووظيفة المفتش بها، ويترقى في المناصب القضائية حتى عين بعد ذلك وكيلا لمحكمة قنا.
ومضى زمان وهو في مكانه ذاك حتى ألهم المستر برونيات (سير ويليام برونيات بعد ذلك) أن يعمل على تعديل النظام الإداري لوزارة الحقانية؛ فوضع تقريرا مطولا عن ذلك، فلم يلبث المترجم به أن نقل من القضاء إلى الإدارة؛ إذ عين مديرا لإدارة المحاكم الأهلية.
وكذلك انتقل المترجم به من مناصب القضاء إلى وظائف الإدارة للمرة الأولى، ويلوح لي أنه كان يؤثر الأولى على الأخرى؛ لأن عبقرية الحكم في الناس، والبت في خصوماتهم، وإقامة منارة العدل بينهم، كانت مكينة في نفسه، متأصلة في أعماق روحه؛ لأن في ذلك معنى النشاط، ومضطربا لحدة الذهن، ومجالا لسعة الخاطر، ونفوذ البصيرة، وبعد مطارح الرأي، وليس القاضي إلا ممثل الملكية، والنائب عن الإمارة، والمفوض في الحكم عن الولاية، وهو منصب يدني صاحبه إلى الناس، ويدني الناس منه، ويقرب إليه فرصة فهم الناس على حقائقهم، وتعرف منازع نفوسهم، وإدراك نفسية المظلومين والظالمين معا، وليست ساحة القضاء إلا حلقة درس للقاضي، ومعهد بحث، ودار فحص، فإذا كان القاضي بعيد النظر، عميق الفكر، قوي الشخصية، استفاد العدل منه، واستفاد هو من منصبه؛ إذ يجتمع جلاله بجلال مقعده، وتلتقي روعة شخصيته بروعة سدته، وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين ، وليس القضاة إلا من كبار علماء النفس، وليست شخصيتهم إلا أول مطلب لمناصبهم، ورب قاض اهتدى إلى المجرم من الجلسة الأولى.
وفي أثناء اشتغاله في الوزارة انتدب فوق أعماله للقيام بأعمال القضاء في محكمة أنشئت للأحداث في القاهرة عام 1905، وقد وضع عنها تقريرا مستفيضا وافيا، أثبته المستشار القضائي في ذلك العهد برمته في تقريره السنوي، مثنيا على كاتبه أجمل الثناء، معترفا له بالقدرة، مقررا أنه من القضاة الشباب الذين برزت كفاءتهم، وعلت مقدرتهم، وتجلت عبقريتهم في مناصبهم.
وفي الحق، كل من قرأ ذلك التقرير، واستوعب ما جاء بين دفتيه رأى أدلة ساطعة على التفوق الذهني، والبراعة القانونية، والتحليل النفساني الدقيق، ويشهد غلالة رقيقة من الأدب، ونسجا بديعا من أساليب الكتابة.
Bog aan la aqoon