ولكنهم - حتى قبل أن يصدر أوامره - كانوا يعرفون أن من المحال أن ينكص، وأن يكتفي من الغنيمة بقفل الجرح. وهكذا حين كظم غيظه لحظة ومن بين شفتيه المطبقتين صدرت الغمغمة المعتادة تقول: إيه رأيكم؟ الفتحة واتفتحت، والورم مش كبير، وشيله مسألة سهلة.
لم ينطق أحد كالعادة، ولا هو انتظر أن ينطق أحد، واصل كلامه بحماس مفاجئ: شوف النبض كام؟ وضغط الدم؟ والتنفس؟ ممكن بنج ساعة كمان؟ جهزوا نقل الدم وعقموا الآلات الزيادة، بسرعة.
بأسرع سرعة تفرق الجمع الملتف حول المريضة الراقدة بلا حول، وتلاحقت سلسلة الأوامر تبعثرهم في كل اتجاه، بينما باشمئناط خلع الأستاذ أدهم قفازه، وطلب سجائره وولاعته، وانتحى ركنا قريبا من غرفة الاغتسال، ومضى في حجرة العمليات يدخن، والسستر الطليانية ترقبه بغضب لا يراه.
وفي هرج ومرج عقمت الآلات بسرعة وبطريقة بدائية، بأن صبوا عليها الكحول وأشعلوا النار، وجلبت أسطوانة أكسيجين لم يتمكن أحد من فتحها، فدفعها الأستاذ بساقه دفعة أسقطتها وأحدث سقوطها دويا كالقنبلة، وجيء بأخرى. أما الدم فقد اكتشفوا أن فصيلة دمها لم تحدد بعد، وكان على طبيب نقل الدم أن يحضر معه زجاجات من كل مجموعة، وأخيرا ركبت الزجاجة في الحامل، ولكن قبل أن تتسرب منها نقطة واحدة إلى وريد المريضة كان الأستاذ أدهم قد عيل صبره، وكان قد أمسك بالملقط والمشرط بينما مساعدوه الثلاثة - وقد أخرج منهم عبد الرءوف - يفتحون له الجرح، ويزيحون أعضاء البطن ومصارينه بالمزيحات المعدنية، كاشفين الورم بقدر ما يستطيعون.
كانت العملية الكبرى، عملية الاستئصال، قد بدأت.
وعلى مجال رؤية تقريبي بدأ الأستاذ يستأصل الجزء الأعلى من الورم، وبالمشرط والملقط يفصله عن العامود الفقري من الخلف، والغشاء البريتوني والكلية والطحال من أمام، وبدا أن كل شيء رغم كل ما حدث يسير على ما يرام، والصمت يخيم والرقاب مشرئبة علها تلمح الورم، أو تستطيع بطريقة ما أن تلقي نظرة على البقعة التي تعمل فيها المشرط والملقط.
وفجأة تفجر من فتحة البطن عامود دموي حاد، وارتطم الدم المنبثق بزجاج المصباح الكشاف، عامود مفاجئ غير متوقع أبدا شحبت له الوجوه جميعا؛ فهو يعني أن شريانا قد انقطع، وفي تلك المنطقة التي كانت تدور فيها عملية التشريح لم يكن ثمة شريان آخر غير أضخم شرايين الجسم، الأورطي. أتكون قد حدثت الكارثة، كارثة أبشع من قطع شريان الرقبة، أيكون الأورطي قد قطع؟
5
حين أوغل بعد الظهر في تقدمه، وراقب قفزات عقرب الدقائق حتى ملها وأصبحت الساعة تقترب من الخامسة، وقد مضت أكثر من ساعتين على العملية الكبرى، بدلا من الغيظ انتابته فجأة موجة استخفاف. أحس بلا مقدمات أن القداسة تذهب عن كل شيء في محرابه المقدس، وأن حجرة العمليات تتعرى عن ذلك الغموض المعقم الساحر الذي كان يصبغ كل شيء فيها، بل وزحف استخفافه ليشمل ذلك الشيء السخيف تماما، المضحك جدا، الموت الذي ربما يبدو مأساويا رهيبا حين نسمعه كخبر ابن لحظته، وندرك في ومضة أن فلانا الحي قد مات وانتهى. أما حين يصبح الموت حدثا يدور أمامك، ويمثله، وتنتظر أن ينتهي فلا تبدو له نهاية، حين يصبح لحظة تتكرر ودائمة التكرر، تذهب رهبته تماما وتصبح شيئا كالحياة التي لا معنى لها، وأقصى ما تشعر به حينذاك أن تحس بالملل. ولا بد أن ذلك الملل هو الذي دفعه للاستخفاف؛ ليدفعه الاستخفاف أن يقرر رغم أي اعتبار آخر أن يحادث «انشراح». - سمعت آخر نكتة؟
توقفت أصابعها المكوكية وحدقت تجاه عبد الرءوف، وجحظت عيناها قليلا، ثم حين رأته يعني ما يقول جحظت عيناها أكثر. - سمعتيها؟ - هي إيه يا دكتور؟
Bog aan la aqoon