قبل أن يحل «التمام» وجدت أني لا أستطيع الانتظار، وقررت ما دام الكلام مستحيلا أن أكتفي بالإنصات لعلي أسمعها تكح أو تغني، أو حتى تستعمل «الجردل». ودهشتي كانت أني سمعتها تتحدث، عبر الحائط أتتني أصوات استطعت تمييزها وإدراك أنها لأكثر من شخص، وفي الحال أحسست بغصة حادة، وكأنما حدثت كارثة. إنها ليست بمفردها إذن، هناك مسجونات معها يتحدثن ويضحكن ولا بد أنهن ينمن بجوارها. وأحسست بالغصة تندك في أعماقي أكثر، مجرد أن يزاملها أحد، حتى ولو كن نساء مسجونات متاحا لهن ما ليس متاحا لي، نساء يستطعن أن يرينها رأي العين أو يعانقنها ولو أردن احتمال لا أستطيع قبوله، يخنقني ويلهب غيظي. وما يغضبني أكثر أنها بدورها تحادثهن، فلا بد أنهن يحتللن من تفكيرها جزءا، بأي حق تسمح لنفسها بهذا، وأنا بكل جزء من عقلي ونفسي وجسدي لها وحدها؟ بلغ غيظي مداه. وحين حل «التمام» ودققت، ومضت لحظة قبل أن ترد، لم أعد أستطيع الصبر، وانهلت على الحائط لكما وكأنما لتدرك أني إنما أوجه لها هي اللكمات.
ثم جلست في الركن البعيد غاضبا أنفس عن غيظي بإشعال نصف السيجارة من نصف السيجارة متجاهلا تماما دقاتها، وهي تستحيل من العنف إلى الإلحاح، إلى السكون لحظة، إلى الغضب القصير إلى العودة مرة أخرى بلين ورقة، وكأنما ترجو وتلح في الرجاء، رجاء لم أستطع معه المقاومة، فعدت إلى الجدار أدق أنا الآخر دقات الصفح والصلح، ومن خلال الوعاء أهمس همس العتب، وتتعانق الهمسات وتتعانق أجسادنا خلال الهمسات ، وأقبلها في فمها الكبير ذي الشفة المقلوبة إلى أعلى، أقبلها قبلة لا نفيق منها إلا على دقات تنهال على الحائط في احتجاج، وكأن زميلاتها يطالبن باحترام وجودهن.
ولكننا رغم هذا لم نستطع أن نحترم ذلك الوجود، وفي حضورهن ورغم كل شيء قضينا ليلة غرام أخرى.
وعدت إلى نفسي ذات لحظة بعد الأيام القليلة التي تلت لأجد أنني لم أفعل شيئا طوال تلك الأيام إلا التفكير فيها. لم يدر بعقلي خاطر واحد أو أحلم بشيء آخر خارج نطاقها ونطاق علاقتي بها، إنه الحب إذن بأكمل صوره. وإذا كان الحب في الخارج يستولي على المحب تماما ويعزله عن الحياة وينفرد به، فما بالك وأنا هنا منعزل ومعزول ولا عمل لي سواه! إن الحدث الصغير التافه الذي قد لا يعلق بالذهن مطلقا في الخارج، حتى لو كان ذهن محب، يبدو هنا مهما خطيرا لا بد من الوقوف عنده طويلا، والعودة إليه مرارا، والتفكير فيه وربطه بغيره، والخروج باستنتاج، بل باستنتاجات قد تؤدي إلى افتراضات ونتائج لا بد أن تؤدي بدورها إلى عودة للتفكير والتأمل.
وهكذا عرفت عنها - من تلقاء نفسي وتأملاتي لهمسها المسحوق - في أيام قليلة ما لم يكن باستطاعتي أن أعرفه في الخارج بمعاشرتها واحتكامي المباشر بها في شهور، كل شيء عنها، بطفولتها بأجدادها وعرق البداوة فيها، بالأغاني التي كانت «تدندن» لها جدتها بها قبل أن تنام، بتفاصيل ما دار لها ليلة دخلتها، بالجهود التي بذلتها أمها كي تنزف دماء يسلم لها الشرف الرفيع، ويزف على رءوس الأشهاد.
وقد يستنكر البعض أن يحدث هذا كله دون أن نتبادل كلمة سليمة واحدة، وأن أستطيع أن أدرك كل هذا من خلال همس مسحوق، ولكن فليسأل المستنكر كل من أحب إن كان قد أخطأ مرة في تفسير مواء الحبيبة، أو إن كان قد عجز - أقل العجز - عن الإحاطة بكل ما يقوله أنينها مهما تشعب ما تقول. ما حاجة المحبين إلى لغة إذا كان الصوت وحده مهما كان مسحوقا ومن خلال جدار يكفي؟
حتى فعل الزمن في الحب بدأت أستعذبه، وأستمتع بحدث الغرام الهائل، وقد تحول إلى عادة، وتحولنا من غريبين محبين إلى قريبين، بل ما هو أكثر من زوجين محبين، هذا الإحساس بأنها لي وبأني لها طول الوقت، بالأمس واليوم وغدا أيضا ستكون لي. هذا الضيق الشديد بالساعات التي تباعد بيننا، هذا القلق المفزع للدقائق التي تفصلنا عن اللقاء، اليقين الذي أصبحت معه أستطيع أن أحدد دون بحث بالضبط أين ستضع وعاءها لأضع وعائي، وأين ستتحدث لأصغي، ومتى تنضج رغبتها للإصغاء كي أتحدث. هذا الهاتف الذي يوقظنا معا لأدق دقة وتدق دقة، ونقول بهما: صباح الخير. أو بالضبط متى تبدأ تتثاءب لأقول بعدها: يالله ننام! تصبحي على خير!
غير أني وأنا أحيا أطوار الحب كلها وأنعم بها لم يخطر ببالي طور آخر ما أعددت له في نفسي أبدا، وما تصورت إمكان وجوده أو حدوثه؛ فهو في الغالب كالعدو الغادر يداهم فجأة، ومن أول دقة دققتها، ولم يأتني الرد في الحال قال هاتف في نفسي: انتهت علاقتنا إذن ولن أسمع عنها بعد الآن أو تسمع عني. حدث هذا مع أن تأخرها أو تأخري في الرد كان مسألة عادية تحدث في اليوم عدة مرات.
في الحال أيضا أخرست الخاطر؛ إذ إني أعرف ذلك الهاتف المتشائم أبدا، الرابض خلف كل انعطافة حدث يبشر بالفاجعة والنهاية. ولم تكن تلك أول مرة يجأر بهتافه؛ فمنذ قصتنا معا وكلما واتته الفرصة هتف، ولكن علامات التفاؤل لا تلبث دائما أن تظهر وتفحمه. هذه المرة مثلما خمنت لم تأت العلامات، وبينما علا عواء الهاتف سعيدا بتحقق فأله، بكل ما أملك من قدرة رحت أكافح، وأستدعي إلى الذاكرة أسبابا وتعللات تبرر تأخر الرد، أو حتى غيابه كلية ليلتها لو حدث، ربما هي في التأديب، ربما في المستشفى، إن هي إلا ليلة أو على أسوأ الفروض ليلتان وتعود.
ولكنه كان تمسكا بأهداب وهم أوهى من نسيج العنكبوت، كانت حقيقة قد ذهبت تماما، هكذا أكدت الأيام والليالي الطويلة التالية، حتى حين - بعد أكثر من أسبوع - جاءني رد على دقي، أشحت عنه في اشمئزاز وضيق؛ فقد عرفت على الفور أنه ليس دقها، ليس لها، ليس صادرا عن يدها البيضاء الطويلة الأصابع ذات الشعر الميكروسكوبي الأصفر.
Bog aan la aqoon