Nabi Musa Wa Tall Camarna
النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الأول): موسوعة تاريخية جغرافية إثنية دينية
Noocyada
لذلك - وبالضرورة - احتسب أن الخير والشر ينبعان كلاهما من يهوه الواحد بذات الدرجة دون تناقض، لكن ذلك أدى إلى مشكلة مستعصية، ظلت بعد ذلك أرقا دائما للأنبياء والكهنة.
وتتمثل المشكلة في أن الديانة اليهودية على غير المعتاد في جميع الديانات، اختار فيها الرب شعبه إسرائيل من دون الناس ليتأله عليه، وبالمقابل ينقذهم من ظلم المصريين، بينما المعتاد أن تختار الشعوب آلهتها، أي أنه خص تلك القبيلة دون العالمين بذاته وعبادته وفضلها على العالمين، ومع ذلك فإن هذا الرب الذي جمع صفات آلهة الخير مع آلهة الشر، لم يكن ينزل الشر فقط بالآخرين الأغيار غير اليهود، بل باليهود أنفسهم بشكل يكاد يكون أكثر من الآخرين. لقد كانت مهمته بعد دمج الآلهة في شخصه إنزال الشرور بالأعداء، فما باله ينزل نقمته على شعبه الذي اختاره واصطفاه وفضله على العالمين؟ وتفاقمت المشكلة بعد انقسام مملكة سليمان، وظهور قوى جبارة أخرى في الشرق كالآشوريين والبابليين إضافة إلى المصريين، وهم من جعلوا المملكتين الإسرائيليتين كرة يتقاذفونها فيما بينهم، إضافة إلى سنوات القحط والمجاعة المتواترة، ناهيك عن أولئك اليهود الذين أخذوا بالإثراء على حساب إخوانهم الآخرين بجشع لا يرحم، وهنا ظهرت المفارقة ما بين الإيمان بإله حليف للشعب، ظهر أصلا لإنقاذ هذا الشعب وحمايته، وبين ما بات يعانيه هذا الشعب من آلام وخطوب، لا شك أن الذي ينزلها يهوه نفسه بعد عمليات الإدماج الألوهي، فكيف يجوز احتساب هؤلاء شعبا مختارا؟ أم كان مختارا للعذاب؟
لقد كان ضروريا من أجل توحيد صفات يهوه الجمع بين السمتين القومية والشمولية، ليصبح يهوه كلي الجبروت، وتمتد سلطته لتشمل الشعوب جميعا، لكن إسرائيل يظل شعبه المختار والمحبوب، وهو ما لا يمكنه تفسير ما لحق به من هزائم أمام الوثنيين الذين لا يؤمنون بيهوه؟
إن هذا التناقض كان قد ساقه من قبل الفيلسوف اليوناني أبيقور 341-218ق.م. حين تساءل: إذا كان الإله كلي الجبروت وكلي الخير، فلماذا يوجد الشر في العالم؟ إما أن الإله يريد القضاء على الشر ولكنه لا يستطيع، وفي هذه الحالة يكون عاجزا ولا يستحق صفته الكلية، وإما أنه يستطيع ولا يريد وفي هذه الحال يكون شريرا وشيطانا، يتلذذ بتعذيب عباده، وإما أنه لا يستطيع ولا يريد، وهذا أمر لا يتناسب مع إله، وإما أنه يريد ويستطيع ويبقى السؤال: فمن أين الشر إذن؟
3
أما المشكلة الثانية التي اعترضت طريق اليهودية، وترتبط بالمشكلة الأولى تماما، فهي غياب فكرة البعث والحساب، ثم المصير الأبدي إلى ثواب أو عقاب دائمين، عن أفق التفكير الإسرائيلي، مثلهم في ذلك مثل بقية محيطهم من الشعوب السامية، يعتقدون أن المصير بعد الموت هو الهبوط إلى مملكة تقع تحت الأرض، هي مملكة شيول المظلمة دوما المخيفة، حيث يعيش الموتى على شكل هوام شبحية، وضعها أسوأ من الحياة ومن العدم، الكل فيها سواء، الصالح مثل الطالح.
وبينما عالجت جارتهم الكبرى مصر هذه المشكلة مبكرا، فقررت وجود عالم آخر بعد بعث جسدي، فيه ثواب وعقاب عن العمل في الحياة الدنيا، حتى يمكن الاعتراف بعدل الإله، ويأخذ الشرير عقابه وينال الخير ثوابه، فإن الديانة الإسرائيلية ظلت منذ فجرها وحتى القرن الثاني قبل الميلاد تعتقد أن الثواب والعقاب دنيويان، فالصالح من عباد يهوه ينال حياة أطول وخيرا ماديا (وهو بالطبع الكلام المنطقي)، بعكس الشرير المنحرف دينيا، فهو يموت مبكرا بقرار إلهي، ولا ينال خيرا في دنياه، يهوه بالأمراض والسقم والفقر والخيبة، ثم يموت حزينا كميدا. اليهودية كانت تثق في يهوه، وترفض وهم العزاء الأخروي زمنا طويلا، لكن يهوه أبدا لم يأبه لهم، فالوثنيون أعزاء كرام بين العالمين، والإسرائيليون يكابدون، وبين اليهود أنفسهم يعيش الشرير وأصحاب المال عيشة رغدا، ويتمتع بالصحة والعافية، بينما يموت المؤمن بيهوه المخلص له فقيرا مريضا، بعد أن ذهبت تضرعاته هباء، وهو الأمر الذي أدى إلى نزعات شك وإلحاد، بدأت تنتشر بين هؤلاء، نجدها واضحة جلية في أسفار، مثل سفر الجامعة وسفر أيوب بالكتاب المقدس ذاته.
ونتيجة انتشار الموجة الإلحادية، قام الأنبياء يحاولون تبرير يهوه وتبرئته، بإلقاء اللوم في كل محنة على الشعب الإسرائيلي، لأن بعضه ولو كان أفرادا قلائل، لم يستقيموا في عبادة الرب، وخانوه مع آلهة أخرى أو شعوب أخرى، وتتالت الخطوب تأخذ بعضها برقاب بعض، حتى العصر الهللينستي الذي أطلق عليه عصر الآلام، عشية مجيء القرن الأول الميلادي بقرنين، فقامت اليهودية تأخذ بالعقيدة الأخروية المصرية كأبرز تبرير للإله، حيث سيمكن تحقيق العدل وتعديل الموازين لكن فيما بعد، عندما يأتي «يوم يهوه»، وينال المخلصون ثوابا أبديا، ويذهب الآخرون إلى العار الأبدي، وبذلك يتحقق ليهوه ما كان ناقصا، وهو العدل الذي لم يحدث في دنيانا الفانية ولا مرة واحدة.
هنا يجب ألا نغفل أن هذا التطور الجديد وإن حدث في فلسطين، فإن فلسطين إبان ذلك كانت تموج بالأفكار المصرية، كما كانت تموج بها مختلف بقاع المتوسط الشرقي، ومن هناك، وعبر الديانة اليهودية قدر للعقيدة الأخروية لتبرير الإله، أن تجد طريقها إلى المأثور السامي، فتصبح من بعد ركنا ركينا في ديانات شرقي المتوسط الكبرى، حتى إنها أدت إلى تطور الديانة اليهودية، إلى ما يعرف بالديانة المسيحية، وأصبح الموتى من المؤمنين بألوهية يسوع، يقومون من الموت للجنة، بعد أن كانوا قبله يذهبون إلى الهاوية، ثم جاءت عقيدة مصر الأخروية به بعد ذلك، كأحد الأسس الإيمانية في قانون الإيمان الإسلامي: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه «واليوم الآخر» والقدر خيره وشره.
لكن هذا المأثور المصري القديم جدا، لم تتقبله اليهودية إلا متأخرا جدا، وهي تلفظ آخر بقاياها مع آخر أنبيائها، لينتظر اليهود بعد ذلك وحتى اليوم (يوم يهوه)، الذي يسودون فيه الدنيا، وبينما تدفع العقيدة المصرية الأخروية بالدماء إلى شرايين اليهودية، يبدأ الصراع بين القديم التقليدي الرافض للبدعة المصرية، وبين الجديد الذي وجدها ضرورة استمرار حتمية، لينتصر الجديد، فيأخذ العقيدة برمتها مع ربها «أوزيريس»، الإله الطيب رب النور والخصب والخير، الذي يموت شهيدا من أجل رعاياه، ويقوم في اليوم الثالث لموته في قيامة مجيدة، ليمنح من يؤمن بموته وقيامته حياة خالدة في عالمه الآتي، وتنادي الأناجيل هاوية عالم الموتى التحت أرضي تقول: أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاويه؟ الموتى الآن يقومون، يصعدون ولا ينزلون، ويستبدل أوزيريس بيسوع الإسرائيلي، وتظهر في أفق الدنيا ديانة جديدة، هي اليسوعية أو المسيحية أو النصرانية نسبة إلى مدينة «ناصرة» في الجليل - شمال فلسطين - حيث كانت تقيم العذراء «مريم»، حيث حملت بالمسيح، ثم وضعت حملها في «بيت لحم» باليهودية جنوبا. تنتصر الدماء الجديدة التي ضخت في شرايين اليهودية على القديم، ويتجدد القديم بجديد كان قديما مصريا، ويقوى أمرها ويستتب، عندما تعتنق الإمبراطورية الرومانية المسيحية دينا رسميا سنة 391م، تفرضه على رعاياها فرضا.
Bog aan la aqoon