انزويت في ركن هادئ وظليل في الطرف الأقصى من السور. لا أدري حتى اليوم لماذا كان كل شيء يدفعني إلى الانفجار في البكاء. كل دقة طلبة، كل زغرودة تحلق في السماء كصيحة طائر ينادي على إخوته في السرب الهائم تحت السحاب، كل ضحكة تصلصل في الفضاء كصهيل خيول منطلقة في السباق، كل ضوء يلمع ويبرق بألوانه الحمراء والصفراء والزرقاء ويخلب الأبصار، وكل سيارة أو حنطور يقف أمام البوابة وينزل منه رجال أو نساء في كامل زينتهن، ويسحبن في أيديهن أولادا وبنات يخطرن في أثوابهن البيضاء كأنهن عرائس صغيرة. كنت أنفحم في البكاء مع كل صوت أو ضوء أو حركة أو نداء، وأنتفض وأختلج وأرتج تحت وطأة الإحساس بالخجل والذنب والعجز والنشوز عن بقية الخلق الذين ملئوا الساحة والشارع بالفرح والهيصة والزيطة. وبينما أنا أنشج وأنهنه وأبلل نفسي الحزينة بدموعي التي لا تتوقف، إذا بيد تربت على ظهري بحنان، وشبح طويل ينحني علي، ويقرب وجهه من وجهي: - ما لك يا حبيبي ... كفى الله الشر ...
قلت، بعد أن رفعت وجهي إليه، وعرفت أنه هو جارنا أبو يوسف الموظف في مكتب البريد: - أبدا أبدا ... لا شيء ... - ولكنك تبكي كأنك في جنازة. الناس جميعا فرحون وأنت الوحيد ... - نعم، أنا الوحيد وسط الزحام. - لست وحيدا وسط أهلك وأبناء بلدك. تعال معي يا رجل، وستعرف أن الجميع مدعوون للفرح ... - الجميع؟ - نعم نعم، الأعيان والفلاحون والتجار، حتى الضيوف والأغراب مدعوون من الليلة لزفاف ابنة الباشا على ابن البيك. شرق البلد وغربها أصبحا سمنا على عسل، وانتهى الصراع والخلاف الأزلي بينهما. تعال معي لترى بنفسك ... - لا أرجوك. - ستجد أقاربك هنا ... وربما تجد أباك وشقيقك ... - أعفني ... ليس لي في الزحام ولا في الأفراح ... - تعال اسمع الكلام ... ستضحك وتفرفش وترقص وتغني مع العوالم ... وستأكل من البوفيه الهائل الذي يتسع للجميع ... - للجميع ... ولكن ليس لي ...
وغلبني البكاء فانفحمت فيه فجأة، ولم أستطع التحكم في دموعي ورعشات أطرافي ونهنهة صدري ... وانصرف جارنا، وهو يقول ضاحكا: ذنبك على جنبك ... ستندم على الفرصة التي ضاعت منك ... اسمع الكلام وتعال معي يا رجل ... البلد كلها تحبك ويسعدهم أن يروك ... - وأنا أحب الجميع وأرجو الخير للكل ... لكنني أحب أن أكون وحدي ... - طيب على راحتك، لكن تعدني أن ترجع للبيت وتسلي نفسك بأي شيء ... سمعت أنك شاعر ... هيا اكتب لنا قصيدة ... قصيدة عن العصفور الذي لزم عشه ورفض أن يرفرف فرحا مع السرب ...
قلت، وأنا أجفف دموعي وأحاول أن أتماسك وأصلب طولي: ادخل أنت بسلامة الله وافرح مع الجميع ... أما أنا ...
انحنى بقامته الطويلة وقبلني على خدي، وربت بحنو على ظهري.
كدت أنفجر مرة أخرى في البكاء، ولكني لملمت أطراف نفسي وشكرته. ومضيت بعيدا عن الأضواء والزغاريد والضحكات وصخب الرقص والغناء. لم أذهب إلى البيت كما وعدته، بل عبرت مزلقان السكة الحديدية، واتجهت إلى منتزه شجرة الدر الكبيرة، بحثا عن شجرة أجلس تحتها وتظلل وحدتي ودموعي.
مع أمي
لا أدري كيف اشتعل الخلاف بين أبي وأمي، ولا لأي سبب. كل ما أذكره أنني كنت بعد العصر في حجرتي مستغرقا في قراءة «العبرات» وتجفيف دموعي بين لحظة وأخرى، عندما سمعت أمي تنهنه باكية بعد ان انفتح باب حجرة نومها عنوة. طرقت باب حجرتي وجسدها كله ينتفض، بينما كان أبي يبرطم من وراء الباب الموارب بعبارات لم أتبين منها سوى جمل مبتورة: روحي اطلبي حقك يا خائبة. تحرم عليك الدار إن رجعت من غير ما يعترف بحقك الشرعي. ناس تأكل مال النبي صحيح ولا حيا ولا اختشا ... يا الله روحي ... روحي ...
لم أفهم حرفا مما تردد في سمعي عن الحقوق الشرعية أو غير الشرعية. كنت لا أزال مع عبرات المنفلوطي، ولا أريد أن أضيف إليها عبرات جديدة على مآس جديدة. وأنقذتني أمي من حيرتي حين طلبت مني أن أصحبها إلى بيت خالي. وأمام بكائها الصامت لم أملك إلا أن ألبس حذائي بسرعة، وأضع جاكتة على جلبابي الأبيض، وأنزل معها السلالم وقلبي يرتجف خوفا وشفقة وحيرة ...
غادرنا البيت والشمس تلملم خيوطها الذهبية من على الأسطح والجدران. كان بيت خالي في الطرف الآخر من البلد، وكان علينا أن نخترق حواري وأزقة وشوارع عديدة قبل أن نصل إلى بيت العائلة الكبير. وكنت أمسك بيد أمي أو بطرف ملاءتها، وأحجل بجوارها كغراب أعرج. وبين الحين والحين أرفع عيني إلى وجهها المقطب، ودمعتها التي تسيل على خدها دون توقف. كان كل شيء يطالبني بأن أقول شيئا، لعل أمي تخرج عن صمتها وحزنها. رحت أجمجم بكلام أحاول أن أملأ به فراغ الصمت المخيم علينا: اتركيها لله يا أمي. مجرد سوء تفاهم ومصيره يزول ... - لا تغضبي من أبي ... هو قلبه طيب، وأنت أول من يعرف أن سماءه ستروق وتصفو من السحب والغيوم ... - بعد قليل سيصلي المغرب والعشاء، ويرجع كل شيء لطبيعته ...
Bog aan la aqoon