راحت تخوض في الوحل، والمطر يتساقط على رأسينا بلا انقطاع. ربما أحست بحزني وخوفي، فظلت طول الطريق تشجعني وتدفع الابتسام إلى وجهي، برغم الجو الممطر والسماء المكفهرة والبرد الذي يرجف البدن: إيه يعني شوية برد وشوية مطر! بكرة تصفو السما وتطلع الشمس وترجع العصافير للشجر. اضحك يا رجل ... اضحك للدنيا ولا يهمك من المطر والبرد والوحل، حتى المصائب قابلها بالضحك تخف عنك. اضحك وأنت تلعب، واضحك وأنت تذاكر دروسك، اضحك في المدرسة والبيت والشارع والجامع. كلنا ماشيين يا حبيبي، وفي الآخر يرمونا في قلب العتمة وينثروا فوقنا حفنة تراب. ربك هو العالم بيوم ما، نصحى من النومة وكل واحد منا ياخد كتابه باليمين أو بالشمال. أنا نفسي هامد يدي واخده وانتظر حكم الله، وابتسامة الأمل والرضا على وجهي وفي قلبي. اضحك يا حبيبي دائما، من ساعة ما تصحى من النوم لغاية ما ترجع تنام بالليل. خذ الضحكة معك، وأحلامك بإذن الله تكون كلها فرح وهنا ...
هكذا مضت تردد أنشودة الضحك والفرح طول الطريق. لم أفهم بطبيعة الحال كل ما قالت، لكنني على الأقل نسيت المطر والبرد والوحل، وانشغلت عن رعبي وخوفي من أول يوم دراسي في حياتي. وعندما رجعت من المدرسة بعد الظهر بالحنطور مع بعض زملائي وجيراني، وحكيت لأمي ما كان من ستي ستيتة، ضحكت هي الأخرى، وقالت وهي تجفف دموعها من شدة الضحك: هي دي ستيتة وهذا طبعها، تضحك طوب الأرض وتميت من يسمعها من الضحك ...
الغريب أن ضحكها كان سبب موتها. كانت في زيارة جيرانها الأقباط مع الطيبة الحنون أم الأستاذ جورج الموظف بالبلدية، وكانت منهمكة في رواية قصتها مع المتعوس خائب الرجا الذي عمل فيها عملته، وتركها مع ابنها ليأكلا الريح ويطعما البرد والجوع. ضحكت في ذلك اليوم على سيرة رجلها، كما لم تضحك أبدا في حياتها. وفجأة طالت الضحكة، فشهقت شهقة طويلة خرج معها السر الإلهي ...
علمت أمي على الفور بموتها، فقالت لأبي الذي أظهر النية الطيبة لتجهيزها وعمل مأتم لها: خلي الوحدانية المسكينة معنا في مدفن العائلة، هي منا وعلينا يا حاج. قال أبي: بالفعل، هي واحدة من العائلة يا أم محمد.
القلم
أنكمش على نفسي كعنكبوت بائس داخل نسيجه الوحيد. أمن البرد القارص في أول الشتاء الذي جاء مبكرا بأمطاره وسحبه (لم يكن علي بالطو مثل بعض زملائي، ولم يلف أحد حول رقبتي كوفية ولا تلفيعة)، أم كان انكماشي وتداخلي في بعضي بسبب الرهبة الفظيعة؛ رهبة أول يوم أدخل فيه المدرسة الابتدائية الواقعة في الطرف الشمالي من البلد.
بعد طابور الصباح الذي صفونا فيه داخل الحوش الرحب، الذي تحيط به مباني المدرسة وفصولها، وبعد التفتيش على نظافة الأيدي والأظافر وياقات القمصان والملابس والحقائب الصغيرة التي ستمتلئ بعد قليل بالكتب الدراسية، التي يتم توزيعها في أول يوم ومع أول حصة، قاد المعلم طابور التلاميذ الجدد إلى فصولهم ووزعهم على التخت والمقاعد، فكان مكاني - لصغر حجمي وضآلتي - في أول صف من الفصل. أخذ يعيد علينا التعليمات التي ألقاها علينا الناظر أثناء وقوفنا في الطابور، ثم يزيد عليها تعليمات أخرى عن النظام والاحترام والقيادة للأساتذة، وعدم الجلوس قبل أن يسمحوا لنا بذلك.
تلفت حولي وقلبت بصري في وجوه بقية التلاميذ الذين راحوا يتبادلون الهمس والتغامز، ويضعون أيديهم على الأفواه ليكتموا ضحكاتهم. كانوا مشغولين بإخراج كراريسهم وأقلامهم، ووضعها مع الريش والمحابر الصغيرة أمامهم. لم أر على وجوههم علامات الخوف والرهبة التي كانت تنفضني أكثر مما يفعل البرد. لكنني تذكرت تحذيرات أمي من الشياطين الصغار، وبكاءها قبل خروجي من باب البيت؛ لأني قليل الحيلة وضعيف ومسكين: ابتعد عن العيال الأشرار. خلك في حالك. هذا ما قالته وما فعلته منذ ذلك اليوم الأول طوال حياتي.
مع دخول معلم اللغة العربية من باب الفصل، قمنا وقوفا. ومع التحقق من منظره الضخم كالجمل الهائل، ومشيته البطيئة وهو يخب في عباءته الصفراء، وتلمع فوق وجهه المتورم عمامة بيضاء، وتتأرجح يده بعصا طويلة. جللنا الصمت والخوف والترقب، ولم نجلس على مقاعدنا حتى أمرنا بالجلوس. كان جاري على التختة قد همس في أذني لدى دخوله بأنه هو الشيخ عبد القادر، وأنه علم كل الأجيال في بلدنا، ويعرف آباء جميع التلاميذ بأسمائهم وأعمالهم.
حيانا الرجل تحية العام الجديد، فتوقفت أعضاؤنا قليلا عن الارتعاش والارتجاف. وبعد أن عرفنا بنفسه ومواعيد دروسه وألوان عقابه لمن لا يحرصون على النظام والأدب، أو يفرطون في أداء الواجب الذي سيفرضه علينا في الدين واللغة العربية، اتجه نحو السبورة، وأعطانا ظهره العريض، وبدأ يكتب بالطباشير وسط الجزء الأعلى منها: إنشاء. راح يتنقل بنا بين الموضوعات المختلفة التي يمكننا أن نكتب فيها موضوعات الإنشاء: اسرحوا بخيالكم في الأرض والسماء، انظروا جيدا إلى كل ما يحيط بكم من نبات وحيوان وإنسان. استفيدوا من تجاربكم اليومية في الحياة العادية، وحاولوا أن تعرفوا أحوال الناس: الفلاح في حقله، والتاجر في دكانه، والأم في بيتها، والعامل في مصنعه، والطالب في مدرسته. المهم أن تفتحوا عيونكم وتركزوا عقولكم وتطلقوا خيالكم يسبح بكم ويسرح.
Bog aan la aqoon