24

Mutawali Salih

المتوالي الصالح

Noocyada

فكتب القاضي أمرا بإلقاء القبض على الشيخ سلمان أحمد، ولكنه كان قادما إلى المعلقة للسعي في تبرئة خادمه حامد، فقابله الجنود في الطريق، وعادوا به مكبلا بالحديد إلى حيث لقي ما يستحق من القصاص العادل، وأطلق سراح الأبرياء، فعادوا إلى قريتهم يشكرون للشيخ صالح وآل القتيل الذين سعوا في إنقاذهم، وساروا هم ووجهاء القرية لتعزية آل الفقيد، وأقاموا للمرحوم مأتما ثانيا في العمروسة دل على ما كان له في نفوس أولئك القرويين البسطاء من المحبة والإخلاص. (3) سفر سليم إلى أميركا

سئم سليم الحياة في بلدته بعد مقتل والده، فسلم محل أبيه لعمه، وسافر إلى أميركا.

وقبل مغادرته بيروت ودع هيفاء، فحزنت لمغادرته الوطن، وقالت: كيف أستطيع أن أفكر بسفرك وحرمان والدي من صديقه الحميم المرحوم والدك وسفرك أنت، وقد كنت لنا مع المرحوم خيرا من الأهل، وأنا هنا أعتبر كواحدة من أفراد عائلتكم، وابنة عمك سعدى تنظر إلي كأنني أختك، وتحبني كما تحب الأخت أختها، فلم أعد غريبة عنك كما كنت تقول، والحق يقال: إن أسعد أيامي هي الأيام التي قضيتها عندنا والتي قضيتها أنا في زحلة، فهل تعود تلك الأيام الحلوة ثانية؟! وهل تعود فتفكر بنا وأنت في العالم الجديد؟! أم تنسى العالم القديم ومن فيه؟!

قال: وهل ينسى الإنسان قلبه، فأنت حيث حللت وأنى سرت تبقين ضمن شغاف القلب وطياته بل في سويدائه، وسوف أكتب لسعدى ابنة عمي، وهي تكتب لي عنك دائما، وإذا بقيت في المدرسة، فأكتب إليك بإمضاء سلمى؛ لأنني لا أريد أن يعرف أنك تكاتبي رجلا، وألسنة الناس شديدة على الحسان.

قالت: ليس لي إلا بضع دقائق أقضيها معك الآن، ثم تسافر إلى حيث لا أراك، فما أشد لوعة الفراق! ولكن الفراق للمحبين كالنار للذهب، يمتحن فيها صفاؤه، فإن أحرقتنا نيران البعد والجوى، فليس أعذب من لذة اللقاء، ولكن أين يكون ذلك ومتى يكون؟

قال: «لا أعلم متى أعود ولا ما يقدر لي الله في ديار الغربة، ولكن لي همة الشباب وحبك الذي سيكون أكبر معوان لي على اقتحام المخاطر وتحمل المشاق، وهو الذي يشحذ ذهني، ويشدد عزيمتي، ويهون علي الصعاب، ألا ليتك كنت تستطيعين أن تذهبي إلى العالم الجديد، فهو جدير بك وأنت جديرة به.» فخطر لهيفاء خاطر مر ببالها بسرعة البرق، ثم قالت: «نعم! إن العالم الجديد جديد في كل شيء، فلا تقاليد قديمة، ولا قيود كذابة تفصل الأخ عن أخيه، فعسى أن نجتمع فيه، فلا يكون هنالك ما يكدر صفاءنا، ويبعد عنا السعادة والهناء.»

مد سليم يده ليصافح هيفاء فمدت يدها، ونظر الواحد إلى الآخر دون أن ينطق أحدهما ببنت شفة، بينما كانت العيون تنقل إلى القلوب والألباب معاني تلك النظرات، وشعر كل منهما كأن سلكا كهربائيا سرى في جسمه، فارتعش الاثنان، ونظر سليم الدمع في عين هيفاء يترقرق، فقال: «صبرا يا حبيبة القلب، الوداع يا قرة العين، صبرا فسوف تجمعنا الأيام.» ولم يعد يقوى على نفسه، فتغلبت عواطفه عليه، وقد دنا الواحد منهما من الآخر، ووقعت العين على العين، وأحس الواحد بأنفاس الآخر ولهيب الحب يتضرم، فقال سليم: «ما أحلى وقوع العين على العين، وليس أفضل منه إلا التقاء الثغرين.» وضمها إلى صدره وقبلها، وأحس بشفتيها تتحركان، ولكنها بقيت صامتة، فسار وفي قلبه بركان يتضرم. (3-1) الشاب السوري في أميركا

وصل سليم إلى نيويورك حيث كان له قريب قصد تلك البلاد من مدة، فحل سليم على قريبه ضيفا إلى أن توفق إلى عمل بسيط في بادئ الأمر، فكان يصرف ساعات العمل مكبا على أعماله دون انقطاع، فإذا انتهى منها قصد المجتمعات الأدبية والمكاتب العمومية يسمع ويرى ويطالع ما يزيده علما واختبارا.

وكانت معرفته للإنكليزية أكبر معوان له، فلم تمض مدة قصيرة حتى أصبح كل صاحب عمل عرفه وعرف أخلاقه يرغب في استخدامه والاستعانة به، وكأنه ورث عن أبيه الميل للتجارة، فحالما سنحت له فرصة اشترك مع صديق له كان في البلاد من قبله وخبر أحوالها، ولكنه لم يكن يحسن القراءة والكتابة بالإنكليزية فسد سليم هذا النقص، ولم يمض عليهما إلا مدة قصيرة حتى أصبحا في مقدمة التجار السوريين سمعة ونجاحا.

ونشبت الحرب الأوروبية، وأخذ ينسحب من سوق نيويورك الواحد بعد الآخر من التجار الأجانب الذين كانوا مسيطرين على بعض الأسواق التي كان يشتغل بها السوريون أيضا فحل هؤلاء محلهم، وكان لسليم وشريكه نصيب كبير من هذا العمل فأثريا وجمعا مبلغا كبيرا من المال في مدة قصيرة، وأنشآ معملا لصنع البضائع التي كانا يشتغلان بها في «ماديرا»، فاتسعت تجارتهما، وبلغت أرباحهما ألوف الجنيهات.

Bog aan la aqoon