وبعد الظهر بساعتين جاء الطبيب فوجد أن حالة سليم تستدعي مزيد العناية والراحة التامة، وأن هنالك كسرا في العظام يوجب عدم نقله من مكانه مدة عشرين يوما.
فصعب هذا على والده، أما سليم فسر؛ إذ كان يرجو أن يرى هيفاء مرة ثانية فيخفف ذلك من آلامه.
وعاد الرجلان اللذان ذهبا للتربص لسليم ووالده في طرف الغابة، وعلما بأمر العصابة الأخرى، وفهما أنها عصابة مسلمة فندما على ما فرط منهما من التسرع، وعلى ما كانا ينويان عمله؛ لأنهما تواطئا مع بعض أغرار البلدة المجاورة على قتل التاجر وابنه انتقاما لابن بلدتهما، الذي كانوا يحسبون أن المسيحيين تعدوا عليه وسلبوه ماله، وعلم الشيخ صالح بالأمر فدعاهما إليه ووبخهما، وأنذرهما بشر العقاب إذا هما عادا إلى التفكر بمثل هذه الأمور، واجتمع أهل القرية في منزله فأظهر لهم خطر الحالة، وفساد فكرة الانتقام الوحشي، وما يجر هذا العمل من الوبال عليهم أجمعين.
وكان الشيخ صالح أكبر مساعد على تخفيف المصاب على صديقه سمعان، وما زال حتى جعله يشعر كأنه بين أهله وإخوانه، بعد أن كان قد نقم على أهل القرية لما جرى، خصوصا حينما علم أنه لو لم يقع بين أيدي اللصوص لوقع فيما هو أشر منه وأدهى، فشكر الله على ما كان، وشعر بالفرق بين رجل صالح يفهم معنى الصلاح، ورجل متعصب جاهل يتخذ من الدين سلاحا لارتكاب الشرور، وانتهاك الحرمات، وقتل النفوس البريئة، وخدمة مآربه الشخصية، فعظم الشيخ صالح في عينيه وود لو أن جميع الناس - خصوصا رجال الدين منهم - كانوا على شاكلته؛ فقد كان دينه ظاهرا بأعماله الصالحة، وعلمه بينا ساطعا بأقواله الحكيمة وتصرفاته الممدوحة، وكلماته الحلوة الناطقة بإخلاصه وصدق اليقين.
لم يستطع سمعان أن يطيل مكثه في العمروسة؛ لاضطراره إلى العودة إلى زحلة للإشراف على أعماله واستلام ما كان قد اشتراه من الحبوب، فترك نجله المحبوب تحت عناية صديقه يوسف الهلالي وأهل بيته، وأوصى به الشيخ صالح الذي أصبحت له في قلب سمعان مكانة عظيمة لم تكن له من قبل.
مرت ثلاثة أيام وسليم لوحده في منزل الهلالي لم يستطع أن يرى هيفاء، أو يشعر بوجودها بعد سفر والده، وإن يكن في العناية بما يقدم إليه من الطعام ما يدل على اهتمامها به؛ والسبب في ذلك أن الهلالي ونجله محمد وأهل البلدة لم يكونوا يتركونه لحظة واحدة؛ ظنا منهم أن ذلك يسره ويخفف عنه ألمه، ويجعله يشعر بأنهم قاموا بواجب الضيافة، وكان كدر الجميع عظيما خصوصا؛ لأن المعتدين من المتاولة.
وفي اليوم الرابع علم سليم أن في القرية مأتما وقد ذهب جميع من في الدار لحضور المأتم بعد أن نظروا في حاجته، ووفوه حقه من الإكرام، وأوصوا به أجيرا كان يشتغل في زراعة الهلالي.
فاغتنمت هيفاء هذه الفرصة وكلفت الأجير بقضاء عمل خارج الدار يستغرق وقتا طويلا، وانسلت من غرفة داخلية إلى حيث كان سليم نائما يئن متوجعا ، فدقت الباب بلطف ثم دخلت واجفة فحيت سليم، وقالت: «سلامتك. لقد آلمنا مصابك كلنا، وكان له أشد وقع في نفسي؛ لأنني أحببت أن أنقذك من خطر فوقعت فيما هو شر منه، أما الشريران الجاهلان اللذان كانا ينويان الشر لكما فلما علما بما كان، ندما أشد الندم على ما أصابك، وعلى ما كانا ينويان عمله.»
فأجاب سليم: «إنني سعيد بما أصابني؛ لأنه مهد لي السبيل إلى مثل هذا اللقاء السعيد، وكنت أظن أن أبي سيرسل والدتي إلى هنا، ولكنه - على ما أرجح - لم يشأ أن يخبرها بما أصابني حتى لا يشغل بالها، وهو لو عرف بما أنت عليه من الظرف والكياسة لما تأخر عن إرسال والدتي إلى هنا، وما كان أسعدها لو تعرفت بك؛ فهي تحب الفتيات النبيلات مثلك حبا جما، ولكني أقر أمامك الآن أنني كنت السبب لهذا التأخير.»
فاحمرت وجنتا هيفاء، وقالت: «كنت أود أن أراك على غير هذه الحال، والله كريم فسوف تشفى قريبا بإذن الله.» - لكنني متى شفيت سأفارق القرية وأحرم من مشاهدتك عند ذلك. - ليتني كنت أستطيع أن أقوم بالعناية بك بنفسي وتمريضك مدة إقامتك هنا، فكنت أجد في ذلك كل لذة، ولكن العادات لا تجيز لنا حتى خدمة الإنسانية المعذبة. - بئس العادات؛ فإننا لولاها لكنا أسعد الناس، ولم يكن في حديثي معك ما نؤاخذ عليه أو يدعو إلى الريبة، بل إن محادثة فتاة نبيلة مثلك ترفع النفس وتلجم اللسان عن التفوه ببذيء الألفاظ وتدمث الأخلاق، ولكن ثقي بأن هذه القيود سوف تزول بالتدريج، فأنا أعرف أن شبان المسلمين في المدرسة كلهم متحمسون مثلنا لفك هذه القيود، وللخروج من سجن العبودية المظلم إلى نور الحرية وعالم المساواة والإخاء. - ولكن الدين يمنع اختلاط الجنسين. - لا أرى رأيك في هذا الأمر، والناس يؤولون أقوال الكتب المنزلة حسبما يتراءى لهم. نعم إنني أوافقك على عدم جواز التعجيل بفك القيود دفعة واحدة، ولكن العلم يزيل الجهل والتعصب الذميم، ويبطل كثيرا من القيود التقليدية التي تفصلنا الآن، والتهذيب يزيل ما علق في النفوس من الفساد ويرفع مستوى الأخلاق؛ إذ ما يمنع أن أكون صديقا لك كما أنا صديق لأخيك؟! أما منع اختلاط الجنسين لمنع الشر والفساد فهذا لا يأتي بالفائدة؛ لأن الممنوع مرغوب فيه، بل إن اجتماع الجنسين يزيل الميل البهيمي، والحشمة أقوى من الحجاب، والمرأة الشريفة العاقلة تحترم نفسها وتحافظ على كرامتها من الامتهان، فلا تشجع الرجل على التهجم عليها، بل تجعله يحترمها ويحبها لسمو أدبها أكثر مما يحبها لجمالها، ونحن نعتقد أن حبس النساء في المنزل لا يمنع عنهن الشر، بل إن ذلك يقوي فيهن الميل إلى الخروج من هذا السجن الضيق، فإذا سنحت لهن الفرصة كن أسرع إلى الشر من المتبرجات. وهناك مثال أقدمه لك؛ فإننا نحن في مدرستنا نعطى الحرية التامة ونعامل كرجال أحرار، ومع أنه يجري أمور كثيرة في المدرسة لا تحمد مغبتها، فإن مستوى الأخلاق عند متخرجي مدرستنا أعلى من مستوى أخلاق متخرجي المدارس الأخرى التي تشدد على التلامذة كثيرا؛ وذلك لأن التلامذة في مدرستنا يعودون على الاستقلال والاعتماد على النفس صغارا، فإذا خرجوا من المدرسة إلى العالم لم تبطرهم الحرية، ولا استسلموا للشهوات والأباطيل. وهكذا تكون الحال لو أفسح المجال للبنات، وأطلقت لهن الحرية ضمن حدود الحشمة وتحت رعاية والديهن، وأحطن بجو صالح من الفضيلة والعفاف.
Bog aan la aqoon