هذه كانت حالة الاثنين حين وجدناهما في قصر فولون، أما مرسلين فقد لزمت البيت حذرا من أن يراها داغير أو بوفور فيعرفانها بالرغم عن تغيير وجهها.
بعد ذلك بيومين وردت رسالة من بوفور إلى جيرار يدعوه فيها إلى عيادته، فذهب إليه وأقام عنده ست ساعات أصبحا بعدها صديقين حميمين، ولكن جيرار خرج من عنده وهو منقبض الصدر، وعلائم الحزن بادية على وجهه.
وكانت أمه قد اطلعت على رسالة بوفور إليه، فلما رأته حزينا ثارت الهواجس في قلبها، وأخذت تستدرجه في الأسئلة فقالت له: هل ذهبت لعيادة الموسيو بوفور؟ - نعم، لقد أحزنني كثيرا. - لماذا ألعل مرضه شديد؟ - نعم، وهو يدعو إلى الإشفاق. - ألا ترجو أن ينفعه طبك؟ - لا حيلة في الطب على هذا المرض. - ما هو هذا المرض الذي يعجز عنه الطب؟ - هو مرض اليأس المستعصي من ذكرى أليمة توقعه كل يوم إلى هوة القبر. - ألعله أخبرك شيئا عما يشكوه؟ - كلا، ولكني علمت من خلال الحديث أنه نكب في شبابه بحب امرأة عبثت بقلبه، والغريب أنه لا يزال يهواها.
ثم ضرب المائدة بيده، وقال: ويح لهذه الشقية فقد قتلته.
فقالت له أمه بصوت المحتضر: اسكت يا بني ولا تقض عليها بحكم قبل أن تعرفها، فهل عرفتها أو عرفت شيئا عنها؟ - كلا ، ولكن كل ما عرفته أنها سحقت قلب رجل لم أر أكرم منه خلقا ولا ألين طباعا؛ ولهذا قلت إنها شقية. - لا تتسرع يا بني بأحكامك وارحمها فقد تكون جديرة بالرحمة. - لماذا تدافعين عنها وأنت لا تعرفينها؟ - وأنت لا تعرفها أيضا، فلماذا تحمل عليها هذه الحملات؟! - لقد أصبت يا أماه، ولكن دموع هذا المنكود أثرت بي أبلغ تأثير. - ألعله يبكي؟ - إنه بكى بكاء الأطفال، وهذا يدل على أن جرحه لا يزال داميا. - ماذا وصفت له؟ - النسيان؛ أي المستحيل، وما عساي أصف له وعلته روحية، وأنا طبيب أجسام لا طبيب أرواح؟ - إذن فهو يكره هذه المرأة ويحتقرها؟ - كلا، بل إنه يحبها ويفتكر بها في كل حين؛ فقد احتجبت عنه فجاءة، وهو إلى الآن لا يعلم سبب احتجابها مع بحثه عنها خمسة وعشرين عاما، ولو سمعت هذا المسكين كيف كان يصف لي نكبته لشبهته بمصباح يفرغ منه الزيت تباعا، ولا يريدون تجديد زيته، وإني أعجب كيف أنه لا يزال باقيا في قيد الحياة، إلا إذا كان باقيا له شيء من الأمل، ولكن الزيت لا بد أن ينتهي فينطفئ المصباح. - أتحسب أنه في خطر سريع؟ - بل إني أخاف أن يفضي به الأمر إلى الانتحار للنجاة من عذاب ذلك التذكار؛ فإنه لم يندفع في الأشغال إلا بغية النسيان، فخسر قسما كبيرا من ثروته ولم ينس؛ ولذلك لم يعد يخيفه الموت، بل صار يعده الراحة الكبرى. - مسكين! - ألا ترين يا أماه أن حالته تستوجب الإشفاق؟ - دون شك. - وإذا أمكنك تخفيف آلامه أتفعلين؟ - بملء الارتياح. - إذن فاعلمي أنه لا يوجد علاج في الطب يخفف عذاب هذا المسكين؛ لأنه مصاب بروحه لا بجسمه، فلا يغير فيه غير العلاج الأدبي، وهذا الذي دعاني إلى الاستعانة بك في معالجته.
فقالت، وهي تحاول أن تضحك: ألعلي عديت منك يا بني فصرت من الأطباء؟ - كلا، ولكنك ذكية الفؤاد طيبة القلب، وإن العزلة هي التي ستقتله وتوحي إليه هذه الأفكار السوداء. - لماذا؟ ألم يتزوج؟
وقد قالت هذا القول بصوت مختنق، فقال لها: لا أعلم، ولكنه قد يكون متزوجا وقد تكون علته من هذا الزواج. وعلى أية حال فإنه يجب أن تعالج فيه تلك العزلة، فإذا أقام بيننا ورأى ذلك الحب المؤلف بين قلوبنا تعزى بعشرتنا وردت إليه الحياة؛ لأنه في أشد الاحتياج إلى صداقة صادقة يشتغل بها قلبه، وسنعرف كيف نجد الطريق إلى ذلك القلب، فهو لا يعيش بيننا عيش غريب مريض مع طبيبه، بل عيش صديق مع أصدقاء. - لا شك أنك هازل يا جيرار. - كيف أهزل في هذا المقام يا أماه؟ - ولكن تمعن في الأمر يا بني فإن ما تقوله لي محال. - ولماذا ترينه محالا وأنا لا أطلب إليك غير أن تشاركيني في شفاء رجل كريم منكوب؟ - أقول محالا لأننا لا نعرف هذا المريض؛ فقد تندم إذا أقمناه في منزلنا. - أراك تريدين التدرج في سوء النية بهذا الرجل، فلماذا لا تسرعين إلى القول بأنه من السفاكين؟ - إن المرء متى بلغ إلى عمري لا يبحث عن علائق جديدة، وستدرك حقيقة قولي متى دخلت إلى عمري، ثم أنت تعلم أني أحب العزلة؛ فإني لم أعش إلا لأجلك ولأجل مودست فلم يكن يشغلني سواكما في الوجود، وقد رضيت أن أحضر حفلة فولون إكراما لك ولأختك، ولكني لا أستطيع المزيد، فإن هذا الرجل لا يشفى بطريقتك إلا إذا كنت وأختك توده، ولسنا على شيء من هذا.
فقالت لها مودست: أسألك المعذرة يا أماه؛ فإني شعرت بميل عجيب إلى هذا الرجل منذ نظرته.
فقال جيرار بلهجة المنتصر: أسمعت؟ - لا أنكر من أن مودست قد تميل إليه ... وقد ترددت عن إتمام جملتها وما عساها تقول؟ أتقول إنه أبوها؟ ولكنها قالت بعد ترددها: غير أني أعجب لعطفها عليه وهي لم تكد تراه. - بل اسمحي لي يا أمي العزيزة أن أعجب أنا أيضا لإنكارك عليها هذا العطف، وهو الذي أنقذها من الموت؛ أليس من العدل أن تنقذه وهي قادرة على إنقاذه؟ ولذلك أسألك قبول طلبي الذي يوحيه عرفان الجميل. - كلا، كلا.
فرأى جيرار أنه لم يبق فائدة من الإلحاح، فسكت ، ودخلت مرسلين إلى غرفتها وهي تقول: كلا، هذا محال.
Bog aan la aqoon