ثم فتق سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه بعد ذلك في مرتقها سمعا، جمع به محكم الآلات جمعا، فأدى ذلك إلى العقول عظمة خالقها، وشملت الجوارح به نعمة جاعلها، وألبس أرجاء السمع أذنا، لاستقرار جولان الوحي في محاله، وازاحة الشك النازل به وإبطاله، ثم عطف سبحانه أطراف غرضوفهما، على البواطن من حروفهما؛ للحوق جولان الأصوات، ولولا ذلك لعجزت عن درك القالات، مع ما ركب من غير ذلك في ظاهره وباطنه من المركبات، وجعل فيه سبحانه كلما يحتاج إليه الجسم من الآلات والأدوات، ثم علق في صدره قلبا، وركب فيه لبا، ثم جعله وعاء للعقل الكامل، وحصنا للروح الجائل، حفظه من مزدحمات الأغذية بانحطاطه، ورفعه عن مقرها من الجوف بمتعلق نياطه، فقر بتدبير الخالق في أحصن حصن وأبعده مما ركب، وجعل في البطن وفوقه من الصدر هواء، وتحته أدوات ومعا، فهو مقر لثابت الأنفاس، متملك لخدمة جميع الحواس، إن شاء شيئا شئنه، وإن أباه بلا شك أبينه، به تنزل مدلهمات الغموم، وإليه مأوى نوازل الهموم، وعند انشراحه للشيء يوجد به الفرح والسرور، وبقبوله تكمل الغبطة به في كل الأمور، جعله الله آلة للفطن والفكرة، وفطره الله تعالى على ذلك من الفطرة، وذلك قول الرحمن، فيما نزل من الفرقان: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج: 46]، وقال سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق: 37 )] يقول: إن فيما تقدم من فعلنا، بمن مضى ممن نزل عليه ما نزل من عذابنا، لذكرى لمن كان له قلب يعقل به، ويفهم ويتدبر ما يرى من فعلنا، فيعلم.
وقد يحتمل ويكون معنى قول الرحمن فيما نزل من واضح النور والفرقان: { ثم أنشأناه خلقا آخر } [المؤمنون: 14)]: هو ما ميز من خلق الأنثى والذكر، فيكون لما أن كسا العظام لحما جعله من بعد ذلك ذكرا أو أنثى، فحينئذ بقدرة الله تمت السلالة، وفيما قلنا به من الخلق ما يقول الله عز وجل في سورة القيامة من خلق الزوجين، فهذا عنديوالله أعلم فأشبه القولين.
ثم نرجع من بعد شرحنا للواحد المؤتلف، والواحد المنتقل المختلف، والله فبري من ذلك تبارك وتعالى أن يكون ربنا كذلك.
فنقول: إنه قد يخرج معنى قول القائل: واحد في اللسان، وفيما يقال به فيه من المعنى والبيان، أن يكون الواحد من الإثنين المتشابهين في المعنى، المتقاربين في الصفة والاستواء، فيقال هذا وهذا مثلان، وهما إذا ذكرا وقيسا شيئان، وهما في التشابه والاتفاق واحد بغير ما افتراق. والله سبحانه فعن مشابهة الأشياء كلها أو مشاكلتها فبري، وعن مناظرة المجعولات فمتعال علي.
وقد يخرج معنى الواحد، فيقال به فيه، ويستدل به في لغة العرب عليه، على معنيين:
أحدهما: الباين بالسؤدد والإفضال، فيقال: هذا واحد في فعله من الرجال؛ إذا فعل ما لا يفعله غيره، ويقصر عنه آله وقومه.
Bogga 166