ولا نرى في مثل هذه الظروف أفضل من تنسيق الحقائق المفردة على أساس علاقتها بالحاضر. فما يعاوننا منها على فهم الحاضر هو أهم بدرجات من غيره؛ إذ القصد من درس الماضي، إنما هو فهم الحاضر وإعداد العدة للمستقبل. هذا؛ ولا نرى مبررا لما وقع من المشادة بين المؤرخين المعاصرين في أمر الانتقاء، ولعل القارئ يعلم أنه قام في ألمانية في القرن الماضي من قال بوجوب الاعتناء بتاريخ الحضارة، وصرف النظر عن الحروب والحوادث السياسية، وأنه قام في الوقت نفسه من استمسك بالتاريخ السياسي، ونوه بمنافعه، ومثل هذا جرى أيضا في فرنسا وإيطاليا وأميركا وبلاد الإنكليز، والواقع أن الطرفين كانا محقين في بعض ما ذهبا إليه، وأنهما تطرفا في القول في آن واحد. ففي تاريخ الحضارة ما لا يستغنى عنه لفهم الحاضر، وفي تاريخ الحروب والحوادث السياسية، ما لا بد من إيضاحه لتفهم الأحوال والظروف التي نعيش فيها.
ومثل المؤرخ في هذا هو مثل طبيب يحاول شفاء مريض له. فأول ما يفعل لتشخيص المرض هو تفهم تاريخ الحادثة. فمن سؤال عن سير الحرارة، إلى آخر عن حركة الأمعاء، فنوع الأكل، وما شاكل ذلك من الأسئلة عن الماضي التي تعين الطبيب في فهم الحاضر.
على أنه لا بد من الاعتراف بأن ما يحسبه المؤرخ يتوقف على الفلسفة التي يدين بها. فقد يقول بآراء هيكل وقد يؤيد البلشفية أو النازية أو ما يسميه فلاسفة ألمانية اليوم الفينومنولوجية. فيضطر؛ والحالة هذه أن ينتقي على أساس فلسفته في الحياة، وليذكر المؤرخ المستجد أن الفلسفة هي من أهم العلوم الموصلة، وأنه لا بد للمؤرخ من تفهمها في ماضيها وحاضرها، وأن الفيلسوف المؤرخ الإيطالي غروتشي ذهب إلى أكثر من هذا، فقال بأن التاريخ هو الفلسفة وأن الفلسفة هي التاريخ.
أما إذا قال بعضهم: إنما العلم لمجرد العلم فنقول نحن: إن مثل هذا الموقف هو نظري صرف لا يمكن تطبيقه، وأقل ما يقال فيه أنه يتطلب نفقات باهظة يصعب على فرد واحد تحملها، وقد يتعذر ذلك على المؤسسات الكبيرة. ثم في حال درس الماضي لمجرد العلم لا بد من أخذ موقف وسط بين العلماء المتطرفين. فالماضي مزيج من حضارة وسياسة، ولا بد من أخذ النوعين بعين الاعتبار.
وقد يقول المؤرخ بوجوب انتقاء الحقائق المفردة على أساس علاقتها بالحاضر، ولكنه يبقى في حيرة من أمره، إما لكثرة الحقائق الباقية أو لشدة اختلافها من حيث النوع أو الموضوع أو الاثنين معا، أو ما شاكل ذلك. فيجدر به عندئذ أن يعيد النظر فيها ليتأكد من شدة علاقة بعضها بالحاضر، فيؤثره على غيره، وحيث تختلف في النوع أو الموضوع، يحسن به أن يقدم ما يتعلق منها بالمجتمع الكبير على الجماعات التي تؤلفه، وما يتعلق بالجماعات على الأفراد. هذا؛ ولا يغرب عن البال بأن سير الأفراد تتفاوت في شدة ارتباطها بحياة المجموع. فحياة نابليون الشخصية، وآراء فولتير الفردية، هي أهم للمؤرخ من أخبار غيرهما وأشد تأثيرا في حياة المجموع من أخبار بعض الجماعات.
التنظيم والتأليف
وبعد المفاضلة والانتقاء يبدأ المؤرخ بالتنسيق والتنظيم. فيجد أنه بإمكانه أن ينظر إلى كل حقيقة من حقائقه المفردة من ناحيتين مختلفتين. فإذا نظر إليها من حيث وقوعها، في زمن محدود، وتعلقها بشخص معين، رآها فريدة في بابها لا تشاركها في ذلك حقيقة من الحقائق، وإذا ذكر أن الناس جميعهم خلق الله، وأنهم كثيرا ما يتشابهون في أغراضهم وحاجتهم وأعمالهم، قال بالتشابه بين الحقائق التاريخية المفردة وبتكرار وقوعها.
وهكذا؛ فإن بعض المؤرخين الذين ينظرون إلى الحقائق المفردة من الناحية الأولى، فيرونها مجموعة من الحقائق الفريدة في بابها يستمسكون بالتنظيم القصصي، ويؤثرونه على غيره، والبعض الآخر ينظر إلى التشابه بين الحقائق المفردة وإلى تكرار وقوعها، فيهتم بعادات الجماعات في الماضي، وعرفهم، ومؤسساتهم، وما إلى ذلك من المظاهر المشتركة بين الأقوام والجماعات، والواقع أنه بإمكان المؤرخ أن يعتبر حقائق مجموعة من الوقائع الفذة، فينظمها بموجب تسلسلها الزمني، ويقدم لقرائه قصة كسائر القصص، وبإمكانه أيضا أن يحصر عمله في التشابه، ووقوع التكرار، فينظم حقائقه بموجب محتوياتها، وإليك الآن مثالا لهذا النوع ننقله لك عن كتاب الأستاذ سنيوبوس الذي أشرنا إليه واعتمدنا عليه غير مرة.
1
تنظيم الحقائق التاريخية بموجب محتوياتها (1)
Bog aan la aqoon