وكذلك فإن الدكتور مشاقة ونعمان القساطلي اشتهرا بنباهتهما وتدقيقهما وأمانتهما أيضا.
27
أما عريضة الدمشقيين فإنها وضعت لاستعطاف أولياء الأمر آنئذ، وكتبها أناس اتهموا بقتل الوالي نفسه، وعرفوا بانخراعهم من جراء ذلك وخوفهم وجبنهم.
28
وبناء على هذا كله نرى أنفسنا مضطرين الآن أن نرجح صحة أقوال المؤرخين المعاصرين، ونكذب الأعيان الدمشقيين.
فإذا صح أن الدمشقيين قتلوا واليهم، وأنهم حذروا بطش الآستانة من جراء ذلك فأظهروا علامات الجبن والخوف، وأنهم فاوضوا عبد الله باشا في الأمر، وطلبوا إليه أن يتوسط بينهم وبين الآستانة، ويستعطف السلطان عليهم، وإذا صحت الإشاعة أنه كان لعبد الله يد في مقتل الباشا، إذا صحت هذه الأمور جميعها، أفلا يصح لنا أن نقول: إن ما اقترفه الدمشقيون من الإثم في مقتل الباشا، وانخراعهم في عقابه، ربما كان سببا من أسباب اتحادهم مع عبد الله باشا ومقاومتهم للفاتح المصري؟
للدرس والتطبيق: ويجدر بالقارئ أن يطالع بإمعان وتدقيق ما قاله الأستاذ جبرائيل في موت عمر بن أبي ربيعة في الجزء الثاني من مؤلفه المشهور، وإليك نصه: «ولعل أخفى ما في تاريخ عمر أمر موته؛ وهو شيء غريب، فالرواة والمؤرخون عودونا أن يختلفوا في أمر ولادة بطل أخبارهم؛ لأن أحدا من الناس لم يؤت النبوة ليعلم أن هذا الصغير الذي يوضع سيكون له شأن، أما أن يختلفوا في ظروف موت شاعر طبق صيته العالم العربي فأمر ذو بال.
غريب جدا أن يكون شاعر مثل عمر ملأ الدنيا بحق، وشغل الناس - نساء ورجالا - ثم يموت فيجهل الرواة أمر موته ويختلفون في سببه وموضعه، فيزعم بعضهم أنه قضى في الشام، ويزعم آخرون أنه مات غرقا في دهلك، ويذهب فريق إلى أنه مات من مرض أصابه، ويذهب آخرون إلى أنه غزا في البحر فاحترقت السفينة به، ويذهب غيرهم إلى أن امرأة شبب بها ظلما، فدعت عليه فقتله دعاؤها، ويضطرب حبل الرواة في تعيين سنة موته، فيرى بعضهم أنها كانت ثلاثا وثمانين للهجرة، يرى آخرون أنها ثلاث وتسعون، ويمد فريق ثالث بعمره، فيجعل سنة وفاته الواحدة بعد المائة، ولسنا نرى بدا بعد هذا الاضطراب والتشويش من عرض هذه الروايات المختلفة للدرس والنقد، علنا نستطيع أن نتوصل إلى الحقيقة.»
أما أقدم هذه الروايات وأكثرها انتشارا في كتب السلف، وأشدها أثرا في نفوس الأدباء العرب في هذا العصر وأحظاها قبولا عندهم، فهي تلك التي تنص على أن الخليفة عمر بن عبد العزيز نفى ابن أبي ربيعة إلى دهلك
29
Bog aan la aqoon