وعليه أن يذكر أيضا أن شدة الانطباق بين الروايات المختلفة توجب الشك لا الثقة، وهو أمر عرفه علماء التزوير في الخطوط، وقالوا به منذ زمن بعيد. فحيث ينطبق إمضاء، معترض عليه، من جميع نواحيه وفي جميع دقائقه، على إمضاء معترف به، يرجح وقوع التزوير، وحيث يشتد انطباق الروايات بعضها على بعض يزداد قلق المؤرخ ويكثر ريبه. (3)
وهناك تآلف بين الحقائق التاريخية لا بد من الالتفات إليه، والاستعارة هنا من علم الموسيقى. فكما تتآلف الألحان المختلفة فتشكل مجموعا موسيقيا شائقا مؤثرا في النفس، كذلك الروايات التاريخية المختلفة، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة تتآلف بعضها مع بعض؛ فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق. فيترتب على المؤرخ المدقق أن ينظر إلى رواياته المتوافقة ليرى إذا كانت تتآلف فتتناصر، وتظهر الحقيقة، والعكس بالعكس.
وقد تكتمل هذه الشروط في رواية من الروايات، ولكن المؤرخ يجد تناقضا بين مضمونها، وناموس من نواميس العلوم الطبيعية. فيضطر، والحالة هذه إلى إسقاط الرواية وصرف النظر عنها، فلو قال قائل بما يتناقض كل المناقضة مع قواعد علم الطب لاضطررنا أن نصدق الطبيب بترك الراوي، ومثله في أمور الفلسفة الطبيعة أو علم الكيمياء أو الحيوان. فهنالك نواميس في هذه العلوم راسخة لا تتزعزع، ولا مفر من الاعتراف بها وقبولها، إن عن الحاضر أو الماضي أو المستقبل.
ومثال بعض ما أوردناه في هذا الباب وفي الباب السادس أيضا ما أقدمنا على نشره عام 1930 في تشريح موقف الدمشقيين من حملة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا على الأقطار الشامية.
فبينما كان لبنان يخف لنجدة مصر 1831م، ويقدم لها المساعدة الواحدة تلو الأخرى، فيجاهر بالخروج على السلطان،
12
ويقاتل في سبيل الشقيقة في طرابلس قتال الأبطال، ويؤمن الذخائر والمؤن في سهل البقاع، ويقوم بحفظ الأمن في القسم الأكبر من البلاد المغلوبة، ويلبي الطلب في هذا الأمر وذاك،
13
بينما كان لبنان يصدق هذا السعي لمصر ويبذل طوقه في سبيلها، كانت دمشق تتقاعس عن مساعدة الفاتح المصري، وتنقبض على إسعافه، وزاد تطرفها في هذا الأمر أن أقفلت أبوابها في وجهه، وتجهزت لحربه فتصدت له بالقرب من داريا، قاصدة قطعة عن عزمه وإحالته عن قصده.
14
Bog aan la aqoon