82

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

لقد ظهر سعد، وكان ذلك وحده كافيا؛ ظهر البطل المنتظر، والقائد الثوري المرتقب الذي ظلت الأقدار تهيئ الأسباب لظهوره، وتعد المناسبة لمتبداه ومطلعه. وكانت أول بوادر زعامته الشجاعة الأدبية التي يعطي بها القدوة ويقدم بها المثل؛ إذ لم تلبث السياسة الإنكليزية أن قابلت حركته الأولى بإنذار، وواجهت انبعاثه لأول وهلة بتهديد ووعيد، وكان ذلك ممكنا أن يحمله على القبوع في داره، والانزواء بعد تقدمه، وحساب العواقب قبل معاودة الإقدام.

ولكن سعدا الشيخ كان ينبغي أن يظهر حتى مع الشيخوخة؛ ليكون حافزا الشباب، مستثيرا الأقوياء، مستحميا قلوب الصغار والكبار على السواء، وفي ظهور البطولة على الناس مفاجأة قوية تنسيهم المخاوف والحرص على الحياة، وتبعث فيهم أكبر الشجاعة، وتثير لديهم احتقار السلامة والأمن والسكون.

لقد جاء يومئذ البطل الذي أحس أن رفاهية وطنه تقتضي منه ألا يمضي في دعته، ويسكن إلى صفو عيشه ورغده، وتوحي إليه أنه ينبغي أن يضع حياته وكل ما أوتي في هذه الدنيا من خير في راحة كفه، ويواجه بها غير هياب ولا وجل قصف الرعود، ومجهول المصائب والخطوب، غير جازع ولا متردد.

إن هذه الجندية الخشنة التي تلبس النفس الإنسانية لمكاره الحياة لبوسها وتشتمل بثيابها وأرديتها، هي البطولة، وأول مظاهرها احتقار الدعة والاستهانة بالراحة، وهما صفتان مستمدتان من الثقة بالنفس والاعتداد بالإرادة؛ لأن الثقة بالنفس إنما تركن إلى قوتها ونشاطها وكفايتها لاحتمال الأذى الذي قد يصيبها في سبيل غايتها، كما يستند الاعتداد بالإرادة إلى السخرية بالحياة التي لا تساوي في نظر العظيم العناية بالحرص عليها، ولا توازي هذا التشبث الذي يتشبثه سواد الناس بها، وإن البطل لينطلق في سبيله على أنغام الموسيقى التي تجيش في أعماقه، وتحدوه إلى التقدم، وهي تدق وتصدح في أطواء جوانحه، فيمضي طربا مطمئنا لا يأبه بمكروه، ولا يجزع من خطب، ولا يلقي بالا إلى كيد أعدائه وخصومة خصامه ومناوئيه وإن كانوا عليه متكاثرين؛ لأنه يعرف أن إرادته أعلى من إرادة جميع من تخرج له الأرض من الخصوم والأقران والأعداء والمنافسين.

البطولة لا تستهدي بعض الناس ولا تسترشد برأيهم، وإنما تطيع حاسة خفية في كيانها، ولا يمكن أن تتراءى حكمتها للناس كما تتراءى لذات نفسها ونظرها؛ إذ كل إنسان منا أقدر على الإلمام بمعالم طريقه، وأخبر بسننه وسبيله من أي مخلوق سواه لم يسلك ذلك الطريق ولم ينتهج ذلك السبيل؛ ولهذا السبب نرى العقلاء والبعيدي مطارح البصر يقبلون على البطل، فيجلسون تحت ظلاله، ويسكنون إلى أعماله وأفعاله، ثم لا يلبثون بعد قليل أن يجدوا تلك الفعال متفقة مع آمالهم، والأماني المتغلغلة في صميم ذلك الزعيم مؤتلفة مع أمانيهم هم وعلالاتهم. ولا يني الحريصون الحازمون يتبينون أن أعمال البطل مناقضة لموجبات الحرص ومطالب الحذر والحزم ومقتضيات السلامة والأمان؛ لأن كل فعلة تقاس بمبلغ سخريتها من الخير الظاهر والفائدة السطحية، ولكنها لا تلبث أن تبلغ ثنية الفوز آخر الأمر، فيخرج الحريصون والمترددون من مكامنهم وملاجئ حرصهم ومفازع حزمهم وحذرهم لتحيتها والهتاف باسمها، والانضواء تحت علمها المرفرف الخفاق.

كذلك صحب ظهور سعد البطل المنتظر إقبال كثير من الشيوخ والوزراء السابقين والموظفين الكبار المتقاعدين والأعيان والسروات والأغنياء على الفكرة، والاشتراك معه في الحركة، والمساهمة بالمال والرأي، ولم يكن منتظرا من أمثالهم الانضمام إليه، ولا كان مرتقبا منهم المبادرة إلى تشجيعه والوقوف بجانبه؛ ولكن سعدا كان رجلا يكسب احترام الجميع ويثق الكل بشخصيته وقوته وأصالة رأيه وثقته بذاته؛ فأقبلوا عليه مطمئنين، وتساندوا في غير خوف ولا تردد ولا إحجام.

إن شخصية سعد، تلك الشخصية الجليلة التي تكونت في الأدوار الأولى من حياته العملية منذ خرج من الأزهر إلى الميدان فبلغ مكان الوزير، ثم برز في الجمعية التشريعية ممثلا للأمة، نائبا عنها، متحدثا باسمها، مدافعا عن سلطانها؛ بل تلك الشخصية التي تعهدتها الطبيعة وجهزتها بكل معدات النبوغ ومظاهر الفتنة ورهبة التأثير هي التي نفثت في جميع من حولها، واجتذبت كل المعارف إليها، وقربت البعيد، وآمنت الخائف، وأزالت هيبة المتردد؛ لأن صاحب الشخصية الجليلة مثله كمثل المطر السح المدرار يحيي موات الأرض الجدباء، وكالعين الثرة النضاحة تدع الصحراء حديقة زهراء، وإن روحه المتدفقة لتعم وطنه، وتشمل جواره، وتغمر ناديه، وتملأ محيطه؛ وتبرز للنهضات، فتكون العامل الأكبر في التعجيل بنضوجها، وسرعة نموها، وما خروجه يومئذ للناس إلا كتوافر الدفء المنعش، والجو الملائم، والمناخ المناسب، ينضج الغراس، ويزكي الزروع، وينبت الحب، ويخرج الشطأ ويطلع الثمر، ولن يؤدي مؤداه ولن يسد مسده جميع ما يخترع من الأسمدة، وكافة ما يصطنع من المخصبات؛ لأنه يبرز بسنا ضيائه في الطخية الظلماء، فيرسل من قبسه على القوى البليدة المتواكلة الفاترة، فيجعلها تحتدم وتتحفز، وما الناس قبل مطلع البطل المنتظر إلا كأكوام القش، أو أكداس الحطب؛ فهل ترون الأكداس مشتعلة بذاتها ولو انقضت عليها وهي في موضعها ألف عام؟! أما إذا أرسل الله عليها شرارة من ضيائه، وتلك الشرارة هي البطل أو الزعيم المنتظر، فإنها لا تلبث أن تشتعل وتتأجج، حتى يستطير لهيبها، وتستفيض شعلتها، وتندلع ألسنتها، وكذلك ترى الرجل العظيم بمثابة الشهاب يسقط من السموات، وترى الناس كأكداس الحطب في انتظار الشعلة؛ فما هو إلا أن يسقط عليها من السماء حتى تشب فيها النار، فإذا هي مستعرة محتدمة تملأ الدنيا أوارا ووهجا وسعيرا.

لقد كنا نحن تلك الأكداس ... وكان سعد تلك الشعلة المقدسة!

وقد نهض سعد فتحرك الناس، ونفي من الوطن فثاروا، وغاب في المعتقل فكانت تلك الأحداث الرهيبة التي ندر أن يقع مثلها بين قوات عزلاء وقوات مدججة بالأسلحة، بل لقد شهدنا أكثر الثورات تنهض مسلحة من جانب الثوار والشعوب المغضبة والجماعات المائجة الحانقة، لولا الإيمان الذي يتسلح العزل به، والثبات الذي يدرع به الضعفاء، فيجدي عليهم أحسن الإجداء حيال الرصاص والنيران.

وإزاء غضبة الشعب الصادقة، اضطر الإنكليز إلى الإفراج عن سعد ورفقائه من منفاهم، وأذن لهم في السفر إلى حيث يشاءون.

Bog aan la aqoon