80

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Noocyada

وهكذا تناسبت الثورة ورسالتها، والزعامة وصورتها، والبطولة وآيتها، بل هكذا تناسب سعد وأمته؛ قادها فأطاعته، وسار بها فتبعته، ودعاها فلبته، وأراد توحيد كلمتها ونسيان عصبية عناصرها لطوائفها ومذاهبها وملتها، فاستحال الناس مصريين، وكانوا من قبل في التعريف أقباطا ومسلمين.

وقد ظن الإنكليز بعد رفضهم السماح للوفد بالسفر أنهم بنفيهم سعدا والذين معه يستطيعون أن يخمدوا الجذوة، ويشلوا الحركة، ويطفئوا نور الوطنية الذي انبثق وأشع على البلاد فقبضوا على سعد في داره يوم 8 مارس سنة 1919، واعتقلوا معه صحبه وأنصاره، وأرسلوهم إلى «مالطة» في الخفاء.

ولم يكن سعد ورفاقه إذ حملوا من ثكنات قصر النيل إثر اعتقالهم يعرفون وجهتهم حتى أركبوا الباخرة من بورسعيد، ولكن عند تمثال دلسبس جاء الضابط الموكل بحراستهم قائلا لهم: إن طريقكم مالطة، فعرفوا يومئذ منفاهم.

وفي مالطة أقاموا لا يعلمون من أمر مصر شيئا حتى بدأهم حارسهم بقوله: «لقد غادرتم مصر بعد أن صيرتموها شعلة من نار!»

كان نفي سعد هو «الشرارة» التي دبت في الهشيم فأوقدت منه نارا، وقد اندفعت البلاد في وقدة الحماسة وضرام الحمية تبتسم للمنايا، وشبابها ورجالها بل ولدانها يلهون بالموت لهوا، ولا يخافون رهبا ولا سطوة، واستحالت مصر في أيام قليلة أفقا متكهربا، ومسرح حوادث جسام متعاقبة، لم تقتصر على المدائن، ولكنها غمرت الأرض كلها، ريفها وصعيدها، إذ اشترك الفلاحون فيها اشتراكا رهيبا، فراحوا يدمرون المحطات، ويقتلعون القضبان، ويهدمون مراكز البوليس، ويخربون كل تخريب.

ولست مع الذين يحبون أن يتفلسفوا عند الحديث عن سر الثورة المصرية وتعليل دوافعها، فيذهبوا إلى أن قيامها كان يرجع في سنة 1919 إلى الطمأنينة الاقتصادية التي كنا ننعم بها يومئذ بسبب ارتفاع أسعار الحاصلات، وبخاصة ثمن قنطار القطن، وتدفق المال في أيدي الزراع من وفرته وكثرته؛ فإن هذا التعليل «المادي» لأمر روحي وانقلاب نفسي هو في الحق تصغير لمعناه، وتهوين من مبالغه.

ولكني أومن بأن الثورة كانت وليدة الأمل بأن مصر قد حان أن تتنفس في جو حر، وتتمتع بحقها المقدس في الاستقلال؛ فلم تكد الشرارة تدب في الحطب اليابس حتى نهض أهل القرى غضابا متسعري النفوس، بعد احتجاز غرائزهم أربعة أعوام سويا، والحمل عليهم بأقسى ضروب القهر والإعنات جميعا، حتى لم يكن منهم أحد إلا وله دم مطلول، أو ولد ضاع في خدمة السلطة، أو جمل مأخوذ من حقله، أو أقوات انتزعت منه انتزاعا، وهو لبيعها كاره؛ فإن السلطة العسكرية البريطانية استبدت تحت نظام الحماية بالبلاد استبدادا شديد الوطأة، خانق النكاية، متناهيا في الأذى والبلاء والعدوان.

والناس ينزعون إلى الثورة إذ يجوعون وتلح عليهم المتربة، ولكنهم إذا اطمأنوا وتكاثرت أموالهم، خشوا الثورة ولم يندفعوا نحوها، خيفة على ما ملكوا، وحرصا على ما جمعوا واقتنوا، واستمساكا بما وقع لهم من اليسار ونضرة الحال ورغد العيش وطيب الحياة.

لقد كانت الثورة يومئذ ثورة نفوس، وهبة أرواح، وانفجارا رهيبا بعد حبسة مستطيلة واختناق أليم، وغليان قدر على نار مشبوبة لا ينطفئ لها لهب، ولا ينفد لها وقود؛ بل كانت ثورة الفلاح الصغير قبل الزارع الكبير، ثورة المتألم الكظيم إذ ينفجر ويغضب ويحتدم، ثورة المكبوح الذي يجد نفسه في سراح بعد طيلة كبت وقهر، وفترة ضغط واستعباد ومخاض عذاب طويل وآلام.

كان العنصر الروحي في الثورة بارزا على أحسنه، متجليا على أبدعه وأروعه، حتى لقد ساهم الولدان والأصبية في الأزقة في الثورة على أقدارهم، وبحسب مداركهم وقواهم؛ فكانوا يجمعون الأحجار لكبارهم، حتى يقيموا متاريس بأعراض الطرق في وجوه السيارات المسلحة التي تطارد الثوار وتتعقب المتظاهرين.

Bog aan la aqoon